شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

العربية القديمة .. كيف السبيل لاكتشاف تطورها اللغوي؟

2020-09-29

  نقوش سبئية قديمة

شكيب كاظم*

لقد شغلت ومنذ زمن بعيد، بمحاولة فك أسرار، نشوء اللغة العربية القديمة وتطورها، وصولا إلى ألقها الحاضر وتوهجها، مع أن ما عثر عليه المنقبون من آثار تدل على بدايات ظهور هذه اللغة، والزمن الذي يفصل بينهما قصير جدا، إذا ما وضعنا في الحسبان الفجوة الواسعة بينهما، بساطة وظلال لغة، تقابلها لغة مكتملة الأركان رائعة ناضجة، مازلنا نكتب بها ونقرأ، منذ خمسة عشر قرنا وإلى ما شاء الله، فقد حاول المعنيون باللغة العربية وفقهها، التعرف على بدايات هذه اللغة وطفولتها، لكنهم لم يهتدوا إلى نصوص موثقة تشفي غليل الباحث عن الحقيقة، فليست هناك نقوش باللغة العربية، التي جاء بها الشعر الجاهلي، بل هناك نقوش لا يكاد يعتد بها، هي عبارة عن مزيج من لغات سامية أخرى، إن أقدم النقوش التي عثر عليها المنقبون من المستشرقين والتي تمكنوا من فك رموزها، ترقى إلى المدة الواقعة بين القرن الخامس قبل الميلاد، والقرن الرابع الميلادي، وهي النقوش الثمودية واللحيانية، نسبة إلى قبيلتي ثمود ولحيان، والصفوية التي عثر عليها في تلال أرض الصفاة، في منطقة جبل الدروز، وخطوط هذه النقوش تشبه خطوط اللغة العربية الجنوبية القديمة، التي تعرف باسم اللغة الحميرية، وتكتب من الشمال إلى اليمين.

كما عثر المنقبون على نقوش أربعة مكتوبة بالخط النبطي المتأخر، وهذه النقوش هي: نقش النمارة، إذ دوّن عام 328 بعد الميلاد – يراجع كتاب (فصول في فقه العربية) لرمضان عبد التواب، ومحاضرات في فقه اللغة لحسام سعيد النعيمي – وبالإمكان التعرف على هذه النقوش، وقراءة بعض ما فيها، خاصة نقشيّ حرّان وأم الجمال، لأن صورها منشورة في العديد من كتب فقه اللغة العربية، لأن حروفها قريبة من الحرف العربي، ويعتقد بعض الباحثين، أنها همزة الوصل بين الخط النبطي القديم، والخط العربي بعد ظهور الإسلام.

إن هذه الظاهرة اللغوية العجيبة، مما يحير العقول والألباب، إذ إن هناك ثغرة كبيرة – لم يتوصل الباحثون إلى فك أسرارها ودراستها حتى الآن- بين هذه النقوش البدائية، التي لا توضح صورة عن حياة أهلها أو ما يقرب من هذه الحياة، بل هي عبارة عن نقوش على القبور أو الكنائس، تكثر فيها الأسماء، لعلها أسماء الموتى أو أسماء من أسهم ببناء دار العبادة هذا، وبين تلك اللغة المشرقة الموحية المتكاملة، نحواً وصرفاً وبناءً وإعراباً، التي جاء بها شعر العرب في العصر الجاهلي، أو تلك التي نزل بها القرآن الكريم، كيف السبيل إلى وصل هذا بذاك؟.

كيف تسنى للعربي البسيط ابن الصحراء، أن يُوجد هذه اللغة المشرقة؟

هل هناك نقوش ظلت مطمورة تحت التراب تنتظر من يشمر عن ساعد الجد، ليزيل عنها التراب ويفك رموزها؟ ولماذا أقول يفك رموزها، ولا أقول يضعها ضمن سياقها من التطور اللغوي الذي مرت به العربية؟

نقش النمارة يعود عهده إلى سنة328 بعد الميلاد – كما قال المنقبون من المستشرقين- والشعر الجاهلي الذي بين أيدينا يرقى عهده إلى مئة أو مئة وخمسين أو مئتي سنة قبل الرسالة المحمدية (نحو 611 م) إن الذي يفصل بين هذه اللغة المشرقة، وتلك النقوش التي فيها لمحات عربية، مدة قصيرة جداً، لا تزيد على القرن من الزمان، هل إن هذه المدة القصيرة، كانت كافية لبلورة اللغة العربية، وجعلها تصير إلى ما صارت إليه، وما وصلنا من نصوصها القديمة؟ هل يصح هذا؟ وهل يقبله العقل؟

كثيراً ما تساءلت كيف تسنى للعربي البسيط ابن الصحراء، أن يُوجد هذه اللغة المشرقة؟ كيف توصل إلى رفع المبتدأ والخبر والفاعل واسم كان وخبر إن ونصب المفاعيل والحال، وكيف توصل إلى الترخيم والندبة؟ هل حدث هذا مصادفة؟ أم بفعل عقل راجح مبتكر حصيف، ومن هو صاحب هذا العقل المبتكر، بل من هم أصحابه؟ لماذا غفل عنه التاريخ أو أغفله، أو غفل التاريخ عنهم أو أغفلهم، والعرب أصحاب حافظة قوية، سواء في النثر أو في الشعر؟

لو سلمنا جدلاً بحصول الذي حصل – في مجال نحو اللغة وقواعدها- شمس مشرقة تشرق هكذا، وينتهي الأمر، هل لنا أن نطبق ذلك على نشوء اللغة ونمائها؟ أمام هذا التساؤلات، التي لم أجد لها جواباً حتى الآن، لم يبق أمامنا سوى افتراض واحد هو: الشك في صحة هذه النقوش، الشك في صحة العهد الذي ترجع إليه، إننا لو ملنا إلى رأي المستشرق إسرائيل ولفنسون في كتابه «تاريخ اللغات السامية»: «لذلك يحتمل أن تكون هناك بعض نقوش، على الأحجار والصخور، أو كتابات على الرق لم تكشف بعد…»، فإن المدة التي تفصل ـ كما قلت- بين هذه النقوش واللغة الرائعة التي وصلت إلينا، لا تسمح بمثل هذا التطور.

أكاد أميل إلى أن نقوشاً عربية خالصة لم تكتشف بعد، فالنقوش التي عُثر عليها، هي في مواقع بعيدة عن الجزيرة العربية، وقد يأتي الوقت الذي تكتشف فيه، وعند ذاك سيتمكن الباحثون من متابعة التطور اللغوي لها.

وقد أعادت إلى ذهني هذه التساؤلات ثانية، قراءة متفحصة للبحث اللغوي المهم، الذي جال فيه هاشم الطعان ( 1931- 1981) وصال، وأعني كتابه «الأدب الجاهلي بين لهجات القبائل واللغة الموحدة» الذي نشرت وزارة الثقافة والفنون العراقية طبعته الأولى، سنة 1978، الذي يرى أن: «أيا ما كانت أهمية هذه النقوش لدراسة تطور الخط العربي، فإن أهميتها في دراسة اللغة العربية القديمة ضئيلة، لأنها متأخرة تأريخياً بالنسبة للتأريخ المفترض لهذه اللغة، ولأن مناطق العثور عليها بعيدة عن الوطن المفترض لهذه اللغة، ولأنها لا تحمل من خصائص هذه اللغة إلا القليل، وبأسلوب لي عنق الحقائق أحياناً».

يفترض هاشم الطعان، ولا يقرر لأننا ما زلنا نخمن ونفترض لقلة الحقائق العلمية التي بين أيدينا، كي نقرر، يفترض أن اللغة العربية القديمة، وهي غير اللغة العربية الفصحى أو الفصيحة التي وصلت إلينا، العربية القديمة واللغة الأكدية شقيقتان، وانفصلتا بالهجرة، ويفترض أن الشطر المهاجر هو الذي سيسرع إليه التغيير، لأنه استوطن بيئة جديدة، واستوحى مفردات جديدة من لغات أُخَر، وإذ يرى أن الأكدية كانت أكثر تطورا من شقيقتها العربية القديمة، لكنه لا يعزو التطور للأكدية فقط، بل هو يرى إن العربية التي كمنت في موطنها القديم الواقع على حافة الصحراء، تطورت أيضا.

 

يعود الراحل الباحث هاشم الطعان ليؤكد إنها رحلة مضنية في تاريخ اللغة العربية منذ انفصامها عن شقيقاتها الساميات، وخلال فترة كمونها التي استغرقت آلاف السنين في قلب جزيرة العرب، ثم ظهورها فجأة كما تسطع الشمس، حاملة أقدم وأغنى الخصائص السامية القديمة.

لكن كما تساءلت أنا منذ عقود، كيف تسنى للعربي البسيط ابن الصحراء، أن يوجد هذه اللغة المشرقة المكتملة؟ فإن الباحث هاشم الطعان، يطلق تساؤله:» ولكن هذه اللغة البدوية الكامنة في قلب الجزيرة العربية، خرجت بعد آلاف السنين، وبشكل فجائي غنية بمفردات حضارية، ونهضت بأدب من أروع الآداب، فكيف كان هذا؟».

 وإذ يسعى الطعان إلى إيجاد تفسير لهذه الظاهرة المعضلة، فإنه يلجأ، أو يلتجئ إلى بعض الدارسين، عله يجد شيئاً، لكن ها هو الباحث الفرنسي ( إيرنست رينان1823-1892) يعلن عجزه عن تفسير هذه الظاهرة، قائلا إنها غير قابلة للتفسير، كما يستنطق الباحث دورم- الذي لم أعثر على ترجمة لحياته، حتى بعد أن عدت إلى معجم المستشرقين للراحل عبد الرحمن بدوي ت 2002- فما وجد لدى دورم جوابا محددا عن هذا الموضوع: «إذ عزا ذلك إلى الصلات بينها وبين الأكديين مفترضا أن يكون ناس من الكتبة البابليين، قد عادوا إلى الجزيرة، وساهموا بحفظ كثير من الخصائص اللغوية، ثم يتساءل دورم، ولكن بأي طريق مكتوب أو شفوي وصل هذا التقليد إلى الصناع الأوائل للعربية الفصحى؟ هذا هو السؤال الذي لا نملك الآن العناصر الكافية للإجابة عليه إجابة موضوعية».

لقد راجعت (باب في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط؟) عسى أن أجد لدى أبي الفتح عثمان بن جني ما يشفي غلة الصادي، فما وجدت، إذ يرى أبو الفتح بن جني: «إنه لا بد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها، ثم احتيج في ما بعد إلى الزيادة عليه، لحضور الداعي إليه، فزيد فيها شيئا فشيئا، إلا إنه على قياس ما كان سبق منها حروفه، وتأليفه، وإعرابه المبين عن معانيه، لا يخالف الثاني الأول، ولا الثالث الثاني، كذلك متصلا متتابعا، وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكي كلام أبيه وسلفه، يتوارثونه آخر عن أول، وتابع عن متبع» كتاب (الخصائص) صنعة ابي الفتح عثمان بن جني (392ه‍) تحقيق محمد علي النجار.

 مشروع النشر العربي المشترك. الهيئة المصرية العامة للكتاب- دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد. وفي خاتمة بحثه هذا، يعود الراحل الباحث هاشم الطعان ليؤكد إنها رحلة مضنية في تاريخ اللغة العربية منذ انفصامها عن شقيقاتها الساميات، وخلال فترة كمونها التي استغرقت آلاف السنين في قلب جزيرة العرب، ثم ظهورها فجأة كما تسطع الشمس، حاملة أقدم وأغنى الخصائص السامية القديمة، مضيفة إليها خير ما اكتسبت من اللهجات التي انشقت عنها، وتطورت تطورا بطيئا مستقلا وأفادت من اللغات المجاورة، ثم تكون اللغة الفصحى التي وصلت إلينا النصوص الأدبية الجاهلية بها، واستمرار تكون اللهجات التي تركت آثارها على الأدب الجاهلي.

وبهذا لم نحصل على جواب واف شاف، رادم لهذا الفراغ الزمني بين اللغتين: العربية القديمة، والعربية الموحدة التي نكتب بها حالياً ونقرأ.

 

  • كاتب من العراق






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي