شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

الكاتب وواقعه… حالات النجاة بالأدب

2020-10-20

 هل يؤثر الكاتب في بيئته وواقعه، أم أنه يتأثر بهما؟

أيمن بيك*

هل يؤثر الكاتب في بيئته وواقعه، أم أنه يتأثر بهما؟ وهل من الممكن أن يحدث الشيئان معاً؟ في اعتقادي هذا السؤال تكون الإجابة عليه عبر النظر إلى الواقع وليس بالاستنتاج فقط، مع التشديد على النظر إلى الكاتب، باعتبار أن عليه أن يكون أكثر حصافة، ولا يفلت لجام العربة ليدعها تسير كيفما اتفق، كون العملية الإبداعية لا تعترف بالانقياد ولا بشروط المسير، وغيرها من أدوات التقييد، بل عليه أن يصير كائناً زئبقياً، يتمدد وينكمش مع تغيرات الجو العام، وأمزجة الأنظمة ورجال الدين والمجتمع، الأمر ببساطة يتعلق بالنجاة، هذا المدخل المهم سيبين وجهة نظري في الإجابة على هذا السؤال.

حالة غوركي

كل المصادر التي اطلعت عليها، بعيداً عن النظر إلى الواقع المحيط بي، تصف تأثر الكاتب ببيئته أو العكس، هو انصهار غير مباشر بين الفنان والبيئة حوله، كنتيجة مباشرة لوجوده فيها، بعض أنصار هذا الرأي يستدل بقصة أديب روسيا المعروف مكسيم غوركي، الذي وجد نفسه في وسط قاده إلى طريق جديد، خاصة صداقته بستالين، ودفاعه عن سياساته، وحشده من أجله الأدباء ليهبه دعماً إعلامياً وأدبياً مطلقاً، وبهذا فإن هذا الرأي لا يعول على حصافة الكاتب كثيراً، بل بالنسبة له أن تصرف غوركي ما هو إلا تأثر بالبيئة السياسية، وهذا تصور يمكن قبوله عند الدخول في تفاصيل طفولة غوركي الفقيرة، فالطفل دائماً ابن البيئة التي ينشأ فيها، لأن عقله أضعف من بيئته، عكس الفنان الذي قضى حياته يفكر ويتعلم، ينغمس في تجارب الشعوب والأشخاص، يستخلص أفكاره المخالفة لكثير من السائد في وقت وجيز.

غوركي فنان ذكي، يعرف من أين تؤكل كتف الدولة، وبطريقة ما استطاع أن يولف بين مبادئه ومبادئ الدولة، وليس كما يقول أصحاب الرأي المذكور، إن غوركي اندمج مع البيئة حوله منقاداً، بالعكس في نظري غوركي هو الذي كان يقود العجلة في علاقته بستالين، وتغير موقفه في أي لحظة من لحظات حياته هذه، سيكون نتيجة لرؤية تتجاوز تفكير الآخرين الذين يقصد التعامل معهم.

ما يمكن قوله إن معاناة غوركي في حياته الأولى، أيام الطفولة، استطاع بحصافته أن يحولها إلى أدب مكتوب، يحكي فيها شجونه وأشواقه، أما عن حياته كمكسيم غوركي، فهذه كان له فيها رأي آخر، سيطول الحديث عن الأمر هنا، كون غوركي من المتقدمين، ولا نملك مساحة كافية لنحلل حياته أكثر مما قلنا.

حالة صديقي

ولنضرب مثالاً حاضراً أمامنا، فإن الروائي محمد الطيب، كان قد كتب رواية أفنى فيها وقتاً مقدراً، وضع فيها رأيه الخاص في السياسة والثقافة والفن والدين، كان يعده عملاً قد يضعه في الطريق الصحيح، لكن الناشر صدمه بالحقيقة، لا نستطيع نشر هذا العمل، لأنه سيتعرض للحظر والمصادرة وسنخسر.

 هكذا ببساطة تبدد حلم صديقي إلى الأبد، لاحقاً لجأ إلى حصافته الخاصة، تقمص الشخصية الغوركية وأكل من الكتف كما يجـــب، وكتب ما استطاع نشــــره بسهولة، بدون أي ملاحظات، أفاد بأن تلك خطوة أولى، لاحقاً عندما تنغرز جذوره عميــــقاً داخل الأرض، سيكتب ما يشاء، لكن أظــــل أقول إن غوركي داخــــله لن يخــــمد أبداً، بل إنه تأخر كثيراً في الإعــلان عن نفسه داخل عقل الروائي، وهو من القلة التي شذت عن القاعدة كونه فنانا.

حالة دوستويفسكي

وبافتراض أن الكاتب بطبيعته المفكرة متجاوزاً، فإنه يتماشى مع البيئة من حوله، ويندمج فيها بما يخدم مشروعه الفني، فإنه بذلك يصبح فاعلاً تجاه بيئته، أي أنه سيؤثر فيها، وهنا تماماً أتفق مع الرأي القائل بذلك ومع الأمثلة التي يطرحها، قضية الأديب الروسي دوستويفسكي كمثال، نجد أنه من خلال رائعته «مذكرات من بيت الأموات»، حيث كان لهذه الرواية أثر بليغ على البيئة السياسية في روسيا، ففي 1862 بعد أن نُشرت الفصول الأولى من الرواية، التي تصف العقوبات القاسية التي كانــــت تفرض على المعتقلين، شكّل الإمبراطور الروسي لجنة خاصة لمعاينة الأمر، وبالفعل في عام 1863 تم إلغاء هذه العقوبات، وهذا أثر دوستويفسكي الواضح على بيئته، يتبعه في ذلك الكثير من الأدباء والفنانين، يمكن لقائل من أصحاب الرأي الأول الادعاء بأن البيئة في روسيا أثرت في دوستويفسكي وأرغمته على كتابة الرواية، في الحقيقة هذا لا يصب في مصلحة ما اتجهوا إليه، بل يمكن القول إنه جزء من حصافة الكاتب، فنشره للرواية لم يكن ليسبب له الأذى، بل إنه كان يدري أن صوته سيصل، بالتالي لم يكن في حاجة لنيل ود الإمبراطور، إنما توجيهه.

الكاتب يطوع بأدواته الواقع بدون أن يطوعه الواقع، فالألم والأمل الذي نقرأه في كتابات المبدعين، ليس تأثراً بالبيئة، بقدر ما هو قراءة صحيحة لها وجانب مما عاشه في طفولته الهشة، كما قلنا سابقاً، وأخذ المكونات التي تخدم ما يريد قوله، فالمكونات البعيدة لن يستطيع الوصول إليها بسهولة، ويتمثل بعدها في كونها ثقافة غريبة لم يقرأ عنها بعد ولم يطلع على حيثياتها ومساراتها.

عموماً مهما اختلفت الأقوال والنظريات، يظل الأدب وسيلة مهمة لتحريك الأفكار إلى الأمام، ونقلها عبر الأجيال، فهي تستهدف أهم فئات المجتمع، الفئة التي تفتح الكتب وتقرأ، الفئة التي تصنع الرأي العام، وتقود شعوبها نحو التغيير والثورة، لذلك للأدب علاقة وثيقة بالواقع، ويظل الأمر في كيفية تعبيره عن الواقع متروكاً للمؤلف وأدواتها التي اختارها بعناية. وسنتفق جميعاً على أن الأدب يفتح مسارات عديدة للتفكير بدلاً عن المسار الموروث، وهذا هو المهم.

 

  • كاتب سوداني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي