شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

سفينة «كوتيلدا» ومأساة الرحلة الأخيرة للعبيد

2020-03-26

زيد خلدون جميل*

■ أثار اكتشاف بقايا سفينة شراعية محترقة تدعى «كلوتيلدا» (Clotilda) في خليج موبايل في ولاية ألاباما في شهر مايو/أيار عام 2019 ضجة في أوساط المؤرخين والمهتمين بحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية. وظهرت مقالات بارزة حول الموضوع في مجموعة من أشهر الصحف والمجلات الأمريكية، مثل «ناشيونال جيوغرافيك» و«نيويورك تايمز». فلماذا كل هذا الاهتمام؟ لقد كان السبب أن تلك السفينة في الواقع كانت آخر سفينة محملة بالعبيد الافارقة تدخل المياه الأمريكية، وكان ذلك عام 1860.

بدأت قصة السفينة في بداية عام 1860، عندما كان استيراد العبيد قد تم منعه في الولايات المتحدة عام 1808، ما أدى إلى زيادة أسعار العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية، وأصبحت مزارع القطن في حاجة ماسة للأيدي العاملة، أي العبيد. وكان تيموثي ميهر، رجل الأعمال ومالك شركة لصناعة السفن ومن أكبر أصحاب الأراضي في ولاية ألاباما، يتجادل في أحد الأيام مع بعض رجال الأعمال حول قانون منع استيراد العبيد في الولايات المتحدة، وتراهن معهم على أنه قادر على استيراد مجموعة من العبيد إلى الولايات المتحدة، متحديا بذلك الحكومة الأمريكية. ولم يكن ذلك بالعمل البالغ الصعوبة، فعلى الرغم من منع الاستيراد، ونص القانون على أن العقوبة قد تصل إلى الإعدام، وقد تم إعدام أحدهم فعلا، فإن الاستيراد غير القانوني كان مستمرا، ولكن حركة الاستيراد كانت أقل من تلك التي كانت قبل المنع، ما أدى إلى زيادة أسعار العبيد. وكان ميهر يعرف جيدا أن مملكة «داهومي» في جمهورية «بنين» الحالية لديها عدة آلاف من الأسرى المعروضين للبيع، نتيجة لحروبها مع جيرانها، وقيام جنودها بغارات في المناطق المجاورة، حيث كانت تأسر أناس وتبيعهم لتجار العبيد. وعلى عكس ما يظهر في أفلام هوليوود، فإن منطقة غرب افريقيا لم تكن قبائل من المتوحشين العراة، بل كان سكانها يشتغلون في مهن محترمة مثل الفلاحة والتجارة والصناعات الحديدية وغيرها، ولذا كان هؤلاء الأسرى أصحاب مهن، وكانوا يعانون الأمرين في ظروف الأسر القاسية.

قام ميهر بسرعة بالبحث عن من يساعده في تمويل العملية، ووجد ذلك بسهولة، وكانت الخطوة التالية هي العثور على السفينة المناسبة للمهمة، ووقع اختياره على سفينة «كوتيلدا» الشراعية والسريعة، التي كانت من إنتاج شركته ولكنه سبق أن باعها، فقام باستئجارها بمبلغ خمسة وثلاثين ألف دولار. وكانت «كلوتيلدا» سفينة صغيرة نسبيا، حيث يبلغ طولها ستة وعشرين مترا وعرضها سبعة أمتار. وبعد ذلك اتفق مع قبطان متمرس للقيام بالمهمة، بالإضافة إلى اثني عشر بحارا، وكان أحد اهم شروط المهمة سرّيتها البالغة. وانطلقت السفينة في الرابع من شهر مارس/آذار عام 1860 باتجاه ميناء «أويدا»، الموجود في جمهورية بنين الحالية، ووصلت الساحل الافريقي يوم الخامس عشر من مايو. وبعد الاتصال بملك داهومي، زار القبطان معسكر الأسرى. وبدأت عملية فحص الأسرى، حيث جُرّدوا تماما من ملابسهم البالية أصلا، وكوّن كل عشرة أسرى حلقة دائرية، لتبدأ دورة جديدة من العذاب لهم حيث قام القبطان بفحص كل منهم جسديا وبطريقة مهينة، شاملا كل التفاصيل مثل البشرة والأسنان والساقين والذراعين، وكأنهم حيوانات في مسلخ. وفي نهاية المطاف اختار القبطان مئة وخمسة وعشرين فردا، واشترى الواحد بمئة دولار. وبهذا الشكل تحول الأسرى المساكين إلى عبيد في رحلة إلى المجهول، وتم إخبارهم بأنهم سوف يسافرون على متن السفينة في صباح اليوم التالي. وكان لهذا وقع الصاعقة عليهم وقضوا طوال الليل، وهم يجهشون في البكاء.

  لا يزال حوالي مئة من أحفاد عبيد تلك السفينة يسكنون في «مدينة افريقيا» حتى الآن. ولا تزال عائلة ميهر موجودة كذلك كواحدة من عوائل الولاية الثرية والبارزة

أخذهم القبطان إلى السفينة التي كانت راسية في منطقة محاذية للمستنقعات، ومن الصعب الوصول إليها، حيث اضطروا أن يجتازوا بحيرة وصل ارتفاع الماء فيها إلى أعناقهم. وعند الوصول أخذ العبيد بالصعود على السفينة ثم لاحظ القبطان وجود سفينة مجهولة في المنطقة، فانتابه الخوف وقرر ترك الباقين عالقين في وحول المستنقعات يواجهون مصيرهم المجهول، وكان عددهم خمسة عشر، والمغادرة بمن صعد إلى السفينة، وكان عددهم مئة وعشرة. وكانت الرحلة قاسية جدا حيث تم إجبار العبيد على أن يكونوا دائما عراة حيث اعتقد القبطان أن هذا سيكون أكثر نظافة لحيوانات متوحشة مثلهم. وغادرت السفينة الساحل الافريقي يوم الرابع والعشرين من شهر مارس عام 1860. وبقي الجميع طوال الوقت في مكان مكتظ لا يصلح حتى لنقل الحيوانات. وكانوا طوال الوقت عراة، ما جعلهم يشعرون بالإهانة، ومكبلين بالسلاسل في قاع السفينة وفي ظلام دامس، وغير قادرين على الوقوف بسبب انخفاض السقف، وفي قذارة رهيبة ورائحة لا تطاق، ومعرضين للمعاملة السيئة من قبل طاقم السفينة، الذين كانوا يسمونهم «المتوحشين العراة». وزاد الطين بلة قلة الماء وسوء الطعام. ولذلك توفي اثنان منهم أثناء الرحلة، ورميت جثتيهما في البحر. وكان العبيد خليطا من الرجال والنساء، وكانت إحدى النسوة امّا مع بناتها الاربع. وكان طاقم السفينة مذعورين طوال الرحلة من أي سفينة قريبة منهم، خاصة الأسطول البريطاني أو الأمريكي، وكادت إحدى السفن أن تعترضهم لتنهي هذه الرحلة البائسة. وفي نهاية المطاف وصلت السفينة ميناء موبايل في الولايات المتحدة الأمريكية يوم التاسع من شهر يوليو/تموز عام 1860. ونقل العبيد بسرعة من أسفل سفينة «كلوتيلدا»، حيث كانت رائحة الفضلات البشرية بالغة القوة والشناعة، إلى سفينة أخرى نقلتهم إلى الداخل الأمريكي عن طريق نهر موبايل. وقام القبطان بدفع أجور الطاقم بسرعة، وفكر هو وميهر في تغيير اسم السفينة لإخفاء العملية بأكملها، ولكن هذه الخطة لم تنجح، فقرروا إحراق السفينة لإخفاء أي أثر لهذه العملية السرية. وتوزع العبيد بسرعة بين ممولي الرحلة، حيث اخذ «ميهر» ستة عشر رجلا والعدد نفسه من النساء. وبيع العبيد بسرعة، حيث بلغ سعر الواحد منهم ألف دولار، وأحيانا ألفي دولار، ويعادل هذا ستين ألف دولار حاليا. ولا يمكن وصف قسوة عملية البيع هذه ووقعها على ضحاياها، فأم البنات الأربع مثلا أجبرت على فراق اثنتين منهن، ولم تعثر عليهما أبدا. وظن كل من تعامل مع عبيد هذه السفينة، أنهم من مكان واحد يدعى افريقيا، وكأن افريقيا هذه قرية صغيرة، ولكن الضحايا كانوا في الحقيقة من مناطق مختلفة من غرب وقلب القارة الافريقية وبشكل خاص من بنين ونيجيريا، ولم تربطهم لغة واحدة. ووجد العبيد أنفسهم في عالم جديد قاس لا يعرفون عنه شيئا، ولا يتكلمون لغته ويرفضهم اجتماعيا، ولاسيما أنهم في قاع المجتمع المحلي، فالعبيد المولودون في الولايات المتحدة، كانوا يعتبرون أنفسهم أعلى منهم اجتماعيا، وعلى الرغم من حرص منفذي الرحلة على سرية العملية، فقد عرفت المدينة بأكملها بأمرها وكتبت الصحف المحلية عنها بعد يوم واحد وحسب. وبعد فترة قصيرة أرسلت الحكومة الأمريكية ضابطا من الشرطة للتحقيق في الأمر، وقرر هذا عدم وجود قضية، لأنه لم يعثر على دليل. ومع ذلك قدم ميهر والقبطان للمحاكمة، وأخلي سبيل ميهر لعدم العثور على العبيد من قبل الشرطة، ولكن القبطان تعرض لعقوبة دفع ألف دولار لعدم دفعه الضريبة على البضاعة المستوردة التي لم يعثر لها على أثر. ويقال إن محاكمة ميهر أنهيت بسرعة بسبب نشوب الحرب الأهلية الأمريكية.

انقسم المسافرون على متن السفينة إلى مجموعات صغيرة حسب المالكين الجدد. وكانت علاقتهم سيئة مع مالكيهم، وكذلك العبيد المحليين. ولذلك تكاتفوا وأصبحوا يدعمون بعضهم بعضا في حالة تعرض أحدهم للأذى، كلما سمحت الظروف وساعدهم هذا على تحمل ظروفهم الصعبة، والمعاملة السيئة التي تلقونها. وعاش جميعهم في فقر مدقع.

بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية وجد العبيد أنفسهم أحرارا وأصبحوا مواطنين أمريكيين عام 1868، فحاولوا الاتصال ببعضهم بعضا. وقرروا العودة إلى ديارهم في افريقيا، ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، حيث اكتشفوا سريعا أنه مهما عملوا وجمعوا من المال، فلن يكون ذلك كافيا لتغطية تكاليف الرحلة، واقتنعوا بأنهم لن يروا أسرهم أبدا، وظلت هذه الفكرة تؤرق مضاجعهم حتى آخر لحظات حياتهم. واتصلوا بصاحب فكرة الرحلة رجل الأعمال ميهر، الذي كان من كبار أصحاب الأراضي في المنطقة، إذ أبلغوه أنه كان لهم عمل ووطن وأهل، ولكنهم الآن بدون أي من هذا، ولاسيما أن كل عذابهم كان بسبب رهان قام به. ولذلك طلبوا منه أن يعطيهم قطعة صغيرة من الأرض كتعويض، فرفض طلبهم تماما، ولذلك جمعوا بعض المال واستلموا بعض التعويضات من الحكومة الأمريكية واشتروا قطعة من الأرض كان جزء منها من ميهر نفسه، وبنوا أكواخا فيها وسموا المكان «مدينة افريقيا» (Africatown) حيث حاولوا الانعزال عن العالم الخارجي، وانتخبوا أحدهم رئيسا لها حيث كان من عائلة نبيلة في منطقته في افريقيا. واختاروا اثنين منهم كقضاة وثالث كطبيب حيث كان لديه اهتمام بالأعشاب. وقام الجميع في المدينة بالعمل الشاق لتأمين معيشتهم، ونمت المدينة حيث انتقل اليها أمريكيون محليون من أصول افريقية وتزواجوا معهم. ولم يتعلم بعضهم اللغة الإنكليزية ابدا. وكانوا يسمون بعضهم بعضا «ابن العم» وحاولوا إبقاء لغاتهم الأصلية حية بقدر الإمكان، وكان آخر من توفي منهم امراة عام 1937. وكانوا يستخدمون أسماءهم الأصلية داخل مجتمعهم، ولكنهم استخدموا أسماء امريكية عند اختلاطهم بالاخرين من البيض والأمريكيين من اصول افريقية. وعانى عبيد السفينة السابقين من الكثير من المشاكل التي عانى منها بقية الامريكيين من اصول افريقية وخاصة في فترة الركود الاقتصادي بعد الحرب العالمية الأولى. ولا يزال حوالي مئة من أحفاد عبيد تلك السفينة يسكنون في «مدينة افريقيا» حتى الآن. ولا تزال عائلة ميهر موجودة كذلك كواحدة من عوائل الولاية الثرية والبارزة. وعلى الرغم من أن أحفاد الجانبين لا يزالون يسكنون في المدينة نفسها حاليا، إلا انهم لا يكلمون بعضهم بعضا. وهكذا كان القادمون على متن السفينة «كلوتيلدا» هم آخر من جلب من افريقيا للعمل في الولايات المتحدة كعبيد.

 

  • باحث ومؤرخ من العراق






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي