شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

دعوة للقراءة

2023-06-01

سومر شحادة

القراءة حدث، لا في كونها تقتضي جلوساً أمام الكتاب في المكتبة أو في البيت، بالوسائط المختلفة للقراءة، ولا في كونها تقتضي أن يقتطع المرء من وقته كي يقرأ، ولا لشبهها بلقاء صديق، مع ما في اللقاء من طقوس. أقول صديق، لأنَّ القراءة حديث باتجاهين، أحدهما من الكتاب الذي يقول إلى القارئ الذي يصغي. والآخر، هو التأويل؛ أقصد ما يراه القارئ في الكتاب. القراءة حدث لاعتبارات كثيرة. لكن أخصُّ بهذا التوصيف ما ينتمي إلى العالم الداخلي للمرء، إلى الإدراك. إذ كثيراً ما تصنع الكتب جانباً من شخصية قارئها.

غالباً ما يبدأ المرء القراءة من محيطه، من مكتبة المنزل، من نصيحة أستاذه في المدرسة أو أحد أخوته. بشكل أو بآخر، يبدأ المرء قراءاته من محيطه، ومن مرجعياته الاجتماعية التي يكون محظوظاً إن كانت مرجعيات تصنع أفقاً إنسانياً في المخيلة، وتنمّيها نحو الآخر، لا استغلاقاً، أو عودة إلى الذات أو نكوصاً. ثمَّ لاحقاً، تصبح مرجعيات الآخرين مرجعيات القارئ نفسه، إنَّه يرثها، وقد يواصل قراءاته بناءً على مرجعيات الآخرين التي تبنَّاها في مرحلة ما من حياته. ويستمر الحال إلى أن يقع على نصوص فارقة، تعيد ترتيب قراءاته ونسج وعيه. وما يجعل نصاً ما نصاً فارقاً، ليس فقط الجماليات؛ بل تلك النوعية التي تستهدف الوعي بصورة مباشرة لا تخلو من أسلوب خاص.

من تلك النوعية على سبيل المثال، رواية جورج أورويل الشهيرة "1984"، وهي روايةٌ معروفٌ أنَّها تتحدَّث عن الأخ الكبير. وقد روَّج لها المعسكر الغربي على أنَّها رواية تتحدث عن الأنظمة الاشتراكية التي يوجد فيها مَن يراقبك طوال الوقت، ومَن يخطط لك كيف تفكر، ومَن تحب، وما الذي تبقيه في ذاكرتك باعتبارها بيتاً للإرادة، وما الذي تمحوه منها. أي، بكلمات بسيطة، هناك مَن يعمل على أن يجعل ولاءك خالصاً لإرادةٍ عليا، تجهلها، تسيّرك من جهة وتستغلك من جهة أخرى. لكن أبعد من ذلك، لا أظن أن القارئ اليوم يجد فرقاً بين الرأسمالية نفسها، وبين الأخ الكبير. فكلُّ الأنظمة الاقتصادية والسياسية تسعى لأن يكون لديها جيش تحت المراقبة، جيش من المستهلكين.

يقود توصيف القراءة على أنَّها حدث، إلى توصيف الحدث نفسه. ولا مناص من الاعتراف، بأنَّها حدث معزول، وإذا أتحتُ للمقال أن يقود نفسه، قلتُ إنَّ هذا الحدث المعزول يؤكد للقارئ أنَّه إنسان أعزل، ليس لديه ما يفعله بوعيهِ الذي أحدثته القراءة، لأنَّه، كقارئ، عرف شيئاً؛ والآخرون، بدورهم كقرّاء، عرفوا غيره. فتجربة القراءة ليست تجربة واحدة. وإلى جانب مرجعيات القراءة التي تشكّل الوعي، تُضاف إليها؛ بل تسبقها، مرجعيةُ العيش، والتجارب الحياتيَّة نفسها.

إذاً، يمكن أن تكون إحدى خلاصات القراءة؛ صنعُ إنسان معزول يدرك بأنَّه أعزل في الوقت نفسه. القراءة تصنع وعي القارئ بعزلته. لكنها خلاصة تهمل فكرة غنى التجربة المعرفية التي تميِّز إنساناً عن الآخر. القراءة تضيف إلى تجربة العيش نفسها. وقراءة رواية أورويل (1903 - 1950) مثلاً، تجعل المرء أقلَ استبسالاً في الدِّفاع عن مضطهديه، أو مستثمريه، وتجعله يعي موقعه في النظام الذي يشمله، أيّاً كان توصيف النظام. لأنَّ القارئ من جرَّاء الحدث الذي تعرَّض له، وهو حدث القراءة، لم يعد الإنسان السابق نفسه. القراءة غَيَّرته، تجربة القراءة جعلت منه إنساناً متمهّلاً في أحكامه، وفي سلوكه، وفي مقارباته للواقع. ذلك لأنَّه قرأ عالماً مجرَّداً، يمكن أن يَستخلص منه، يمكن أن يبني عليه، ويمكن أن يستعين بهِ. القراءة، في النهاية، عونُ الإنسان في وحدته القائمة.

روائي من سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي