شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

يوميات العاشق الرقمي.. الحب في زمن "الديجتال"

2020-12-03

 

سليمان البزور

لو قُدِّر لامرئ القيس أن يُبعث من جديد، لتخلى عن سيفه ورمحه وفرسه وخلّانه.. ولربما استبدل بالوقوف مع صاحبيه على الأطلال الجلوس أمام شاشة ذكية، محدقاً في نقرات الحبيبة وما أعجبها أو أثار استياءها في هذا العالم المصغر.

ولو قُدِّر للنابغة الذبياني أن يُبعث من جديد، لهجر سوق عكاظ، واستعاض عن قبته الحمراء - التي كان ينصبها في قلب السوق، خلال نقده الشعر واستماعه إلى فحول الشعراء - بحساب على «تويتر» أو «انستغرام».. ولترك «الدايركت» مشرعاً أبوابه للشعراء يتركون قصائدهم في حضرة حساباته على مواقع التواصل لينقدها كما ينقد الطائر الحَب، أو كما يصك صاحب العملة النقود.

هي ليست سخرية بقدر ما هي مفارقة وجودية، فالإنسان الذي ارتضى أن ينسلخ من بشريته، ويتخلى عن حميمية أشد المشاعر أسى وأكثرها سروراً لمصلحة التعبير عنها رقمياً، لن يضيره أن يتذوق الشعر من وراء الشاشات الرقمية، ولن يجد حرجاً في التغزّل بفتنة أنثى استعانت بـ«الفوتوشوب» لتحاكي ليلى العامرية أو ولادة بنت المستكفي. قد يُقال - ولا بد أن يُقال - إن ذلك الكلام يبخس الثورة الرقمية فضلها على البشرية، وما أحدثته من فتوحات لم تكن تخطر على بالِ أكثر كتاب «الفانتازيا» إبداعاً، كتقريبها المسافات واختصارها للوقت، واستحضار الغائب، و«جلب الحبيب» من أعالي البحار في ساعات معدودة بعد أن كان الأمر يستغرق أشهراً طوال.

وسيُقال أيضاً بأن العالم كله تطور، ووصل الإنترنت إلى الغابات الاستوائية وباتت قبائل الأمازون على وشك تدشين حسابات لها على مواقع التواصل، لا بل إن بعض القطط والكلاب والطيور أصبحت لها حسابات على مواقع التواصل ولديها مئات آلاف المعجبين، ومن يتابعون يومياتها بشغف.

يوماً ما، قال الشاعر الراحل محمود درويش: «أكبر تنازل تقدمه في حياتك هو أن تتأقلم»، وهو القول الأكثر تماثلاً مع آراء كل من يمقتون الإقبال المبالغ فيه من قبل جمهور الثقافة ورواد الأدب على الثورة الرقمية التي سلبت منا أكثر المشاعر دفئاً وأصدق اللحظات حميمية.

حتى الحب تحول إلى لغة برمجيات، يحفزه «لايك» ويخفت بريقه «ديس لايك» وينهيه «بلوك».. هذا هو الواقع، وهذا هو حال العاشق الرقمي، الذي استبدل برسالة حب تعشش فيها رائحة الحبيب رسالةَ «ديجتال» قد تذهب إلى الشخص الخطأ بمجرد أن نستبدل رقماً بآخر، ولعلها تَعلَق في زحمة الضغط على الشبكات.. أو يتم التراجع عن إرسالها بكبسة زر واحدة.

ذات يوم قال الشاعر القامة أمل دنقل في قصيدته «لا تصالح».. «هي أشياء لا تشترى» متحدثاً عن حميمية العلاقة بين الأخوة، وهي الجملة التي تنطبق على حميمية المشاعر الإنسانية التي تحاول «السوشيال ميديا» أن تسلبها منا، وتستبدل بها مشاعر زائفة، فمليون رسالة «واتس أب» لن تساوي سطراً واحداً من أسطر رسالة من عباس محمود العقاد إلى مي زيادة.

كما أن ألف رسالة صوتية «فويس نوت» لا تساوي همسة حقيقية كان يهمسها جميل بأذن بثينة. سيُقال - ولا بد أن يُقال - إن ذلك شيء من الرجعية، وعدم اللحاق بركاب التطور، وسيكون الرد على ذلك القول بأن العلم الذي أحدث الثورة التكنولوجية وطار بالإنسان إلى سطح القمر، عجز حتى اليوم على أن ينقل لنا رائحة من نحب أو يحاكي القشعريرة التي تنتابنا حين نعانق عزيزاً علينا، كما فشلت كل «الفلاتر» التي استحدثها في محاكاة البريق في عيون أم تنتظر ابنها بلهفة ليس كمثلها شيء.

كلمة حق.. أريد بها حقاً لسنا ضد التكنولوجيا الحديثة والتطورات المتسارعة، لكننا ضد السعار الرقمي الذي أتى على كل شيء وسلبه خصوصيته، كأنه إعصار يتجول في أنحاء المدينة.. لا يُبقي ولا يذر. Volume 0% وكثرٌ هم الأدباء الذين طوعوا الثورة التقنية واستفادوا منها، وقد يكون في طليعتهم الشاعر المقيم في الدنمارك أسعد الجبوري الذي كان من أوائل من أدخلوا المصطلحات التقنية في قصائدهم، وأصدر كتابه الذي حمل عنوان «قاموس العاشقين 1000 sms»، ولا يمكن أن نتجاهل محمد سناجلة رئيس «اتحاد كتّاب الإنترنت العرب» الذي تأسس عام 2004 وهو صاحب روايتي «شات» و«الواقعية الرقمية»، وغيرهما كثر.

يذكر أن جمهور الثقافة والأدب في مختلف أنحاء العالم، تعايش مع الواقع الجديد، حتى أننا بتنا نستمع إلى روايات رقمية وهو إنجاز يسجل لمن ابتكره للأمانة، رغم أنه لا يغني عن لذة قراءة الرواية ولا يمكن أن يماثل متعة تقليب صفحات كتاب، كما أن معارضة الكتب تحولت إلى النوافذ الرقمية في ضوء انتشار وباء «كورونا» الذي نقل أيضاً ندوات إلى الشاشات الرقمية بعد أن كانت تقام في المراكز الثقافية.

كما انتقلت مناظرات كثيرة من أرض الواقع والصالونات الثقافية، إلى ميدان «السوشيال ميديا»، وأصبح «تويتر» ساحة معركة أسلحتها تتمثل بـ«ريتويت» و«ريبلاي» و«بلوك» و«لايك».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي