شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

شروحات لمدائن العشق

2020-11-29

هاني بكري*

في البدء كان المستحيل، وكان نقش سماوي، وأيقونة حزينة «هي البحر»

(1)

وإنني إذ كنت أسير في فلاة من الأرض صوب النهر، حاملا فوق كتفي أوردتي، وعشرين بركانا، فلما دنوت من الشاطئ، ناداني شيخي، وقال اقترب، فلما اقتربت، انشق جبيني، فإذا النهر بداخله، وأنا أغتسل وأطفئ براكيني.

(2)

تقدم وجد في المسير، فإن الطريق طويل، وهم خلفك، وإن يدركوك يقتلوك، هكذا قال لي أبي؛ وأخذني وسار بي عبر دروب قريتنا الملتوية والمتداخلة. كنا نحاول شق طريقنا عبر الطين والوحل بصعوبة بالغة، متجنبين الجثث المتكدسة في الشوارع، ونتقي بالمناديل المعطرة الروائح الكريهة المنبعثة منها. وكذلك كنا في سعي دؤوب للخروج من القرية قبل الغروب، حتى أننا أنهينا الطريق المفضية إلى خارجها عشرة آلاف مرة. وكلما نصل إلى نهايتها، نجد أنفسنا في البدء من جديد، وسرنا على هذه الحال أياما طوالا، نحاول الخروج؛ وتتأبى الدروب اللعينة أن تبيح لنا بسر الولوج.

(3)

في وحدتنا نتآكل، ونقيم صداقات مع حشرات الجدران، في وحدتنا نتمنى أن يطيل بائعو اللبن الصباحيون الحديث معنا، «لكنهم أبدا لا يفعلون» في وحدتنا؛ نحصي ما تبقى من أوردة، وما مضى من شموس، نعد أحلامنا حلما حلما، ونضعها في صناديق الوقت الطويل، في وحدتنا نبصر ما لم نبصر، نرى ظلال الأعمدة موحشة وحزينة، نتأمل قسمات وجوه المارة، النازفة بالتداعيات.

في وحدتنا؛ نفتح قلوبنا للغرباء؛ مستعدين تماما أن نحمل ضجرهم؛ وأن نهدهد أمانيهم، وأن نصغي بشغف إليهم، شريطة أن يضغطوا على عظام أيادينا المشتاقة بصدق حين نمدها بالسلام إليهم.

(4)

كان الحجريون يفجرون من ثبج الماء أنهارا، ويطلقون أغانيهم الحزينة صوب الحيتان التي ما التقمت إنسانا قط، ويبيحون بما بتبقى لديهم للموج. الحجريون شيدوا على الرمال قصورا من بلاستيك، ومن شرفاتها بصقوا في وجه البحر، أقاموا حفلا خلطوا فيه أعمالهم، وتبادلوا في ما بينهم أنخابا من ماء أجاجا.

(5)

تحت سماء طرابلس، كنت وحيدا في الحانة، أمزج كأس الخمر بدمعي وأتلظاها، وكانت بيروتية، تبحث عمن يغسل غربتها، وتساءلني مخنوقة بالدمع؛ لما المضاجع ثلج؟ ولما الدروب مواصد؟ ولماذا لا تلامس نيران الفجر، برد قلوبنا فتغدو سماء وحقولا؟ ظمآنة أنتِ للحب وأنا على سفر ومن سفر.

(6)

حين تركوا الشرفة مفتوحة غرد «لوركا»، وحط طائرا على دفتري، فأنبت قصائد من وجع. تبتسم العصافير في وداعة أليمة، حين تحلق فوق جدران الفضيحة، فتحجب غابة من غيوم، وتمطر ضوءا من شمس، ودم يلعقه الحرس المدني، وتلعقة راقصات الفلامنكو، وكذلك المومسات الصغيرات البائسات، وللحجارة أن تنبت عشبا وقصائد.

(7)

للبحر حملت صليبي، وأحكمت أشرعة لا تبوح للنوارس بسر انشطارات صرخاتنا الأولى، وتحت سماء الرب مارست طقس الموت، وكان القبوريون والليليون والمعتمون يأخذون كل سفينة غصبا، عندها ناداني شيخي: أرفع قلبك من تحت قدميك وسر.

النص من كتابي «شروحات لمدائن العشق» الصادر في القاهرة عام 2005

 

  • كاتب وإعلامي مصري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي