شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

صورة الطبيب في الأدب

2020-04-07

عزت القمحاوي

للطبيب مكانة شبه مقدسة في مخيلة الإنسانية، بصفته سلطة المعرفة والأخلاق. لا تختلف هذه الصورة في الإبداع المكتوب عنها في الإبداع الشعبي الشفاهي، وتتعاظم في أوقات الأوبئة التي يتحلى فيها الأطباء بشجاعة المحاربين القدماء في عصور القتال المتلاحم.

وفي حين يُدفع الجنود إلى الحرب بقرار قد يتخذه رجل واحد، ويلقون حتفهم دفاعاً عن قضايا قد لا تكون قضاياهم، يذهب الأطباء ومساعدوهم إلى المستشفيات بمحض إرادتهم هذه الأيام، وهم يعرفون أن احتمالات موتهم قائمة بالوباء العالمي، حتى أطباء العراق الذين بدوا في مستشفيات خربة دون وسائل حماية لا يتأخرون عن واجبهم، مقدمين مثالاً لقيمة الفداء التي يختارونها كل يوم بحرية وهم يدافعون عن الإنسانية في قضية عادلة لا يشوبها أي لبس.

يواصل الوباء إيقاع الضحايا في صفوف الطواقم الطبية، من الصين إلى إيطاليا التي منيت بأكبر خسارة في صفوف الأطباء والممرضين. وبدا العالم وكأنه يتذكر أهمية هذه المهنة التي يرزح أبطالها في البلاد الفقيرة تحت ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة. عاد الطبيب، ولو على المستوى المادي فحسب، إلى صدارة المشهد بعد أن تقهقر مع كثير من المهن العلمية والفكرية عن مشهد تصدرته مهن تكنولوجيا الاتصالات والصيارفة والمضاربين في البورصة وسماسرة العقارات.

صورة ترمب واقفاً وراء أنتوني فوسي، خبير المناعة والأمراض المعدية، يتحدث للأميركيين عن خطورة وباء كورونا بحقائق تنافي استهانة ترمب بالوباء، بثت رسالة تطمين للأميركيين: لقد بدأ الرئيس يتعقل، ويترك الإفتاء في الطب لأهله؛ تمثل الصورة انتصاراً للعلم على غطرسة السلطة الجامحة.

الخبر الأول في نشرات الأخبار محجوز لصناع الحياة من الأطباء المعالجين في المستشفيات والباحثين في المعامل، وقد كان حكراً على صُناع الموت قبل هذه الجائحة العالمية؛ ارتفع صوت الحكمة وخفت صوت الجنون، ولو إلى حين.

نشأ الطب بصفته فرعاً من فروع الحكمة والفلسفة، مثلما نشأت الرياضيات.

وفي حين انفصلت المعرفة الرياضية في الوعي العام عن أصلها الفلسفي، ظل الطب مرتبطاً مع الفلسفة بحبل سُري، واحتفظ الطبيب بلقب حكيم في كثير من المجتمعات حتى وقت قريب، مثلما يبدو ارتباط الطب بالإبداع الأدبي والكتابة إلى اليوم ظاهرة تستحق التأمل. كثير من كبار الأدباء في العالم أطباء، وبعضهم يستمر في مزاولة الطب مع الكتابة، ومن بينهم أنطون تشيخوف، أحد أهم أعمدة الأدب الروسي، وآرتور شنيتسلر الألماني، وفرديناند سيلين الفرنسي، والاسكوتلندي آرثر كونان دويل صاحب شرلوك هولمز، والسوري عبد السلام العجيلي، الحكيم الذي افتقدت مدينة الرقة الحكمة من بعده.

رأيت بعيني حجم الحب الذي تكنه الرقة لحكيمها، ولا شك أن منزلته الرفيعة تنبع من هذه المهنة الجليلة، وقد رأيت مكانة مماثلة لحكماء في الريف المصري، حيث ولدت. كانت كلمة الطبيب نافذة في المجتمع لا ترد، وكان الأطباء يمارسون أدواراً في تحديث القرى، وفي الصلح بين الناس. المرأة التي غادرت بيت زوجها، ولم تستجب لكل الوسطاء، لا تستطيع أن ترد الحكيم إذا ما طرق بيت أهلها.

العجيلي كان استثناء لأنه صنع هذه المكانة في مسقط رأسه، بينما كان الحكماء الذين عرفتهم في صباي يأتون من بعيد، فالحكمة والقداسة لا تُصنع إلا في المعامل البعيدة. ومع انتشار التعليم، وزيادة عدد الأطباء من أبناء القرى الذين يعملون في قراهم، بدأ لقب الحكيم في الانحسار. أصبح الطبيب ابنهم الذي رأوه يكبر أمام أعينهم، بكل ما في طفولته ومراهقته من رعونة، وأصبح يتعلم الطب في محافظته؛ أي أنه لم يغب عن أعينهم حتى في سنوات الدراسة، كما كان جيل العجيلي يغيبون في العواصم أو يسافرون للخارج.

في «ألف ليلة وليلة» عجز أطباء مملكة فارس عن شفاء مليكها من البرص، وجاء الحكيم دوبان ليشفيه. وتخبرنا القصة شيئاً إضافياً: إن سلطة الحكيم يمكن أن تتغلب على سلطة الحاكم، ويستطيع الحكيم أن يمارس سلطته وينتصر حتى بعد الموت!

كان العلاج بسيطاً: أشبع الحكيم دوبان الصولجان بالأدوية، وطلب من الملك أن يقبض عليه، ويضرب به الكرة حتى تعرق، وسرى الدواء في جسمه. وهكذا، شفي الملك، واتخذ من الحكيم نديماً، الأمر الذي أثار غيرة الحاشية، فوسوس أحد الوزراء للملك: «أما ترى أنه أبراك من المرض من ظاهر الجسد بشيء أمسكته بيدك؟ فكيف تأمن أن يهلكك بشيء تمسكه أيضاً؟!». اقتنع الملك بأن الحكمة تقتضي التخلص من الحكيم بالفعل، وأرسل في طلبه، فمثل بين يديه.

ولما لم تجد توسلاته، استمهل الملك حتى يعود إلى داره، يوصي أهله وأصحابه بدفنه، ويهديهم كتبه، ويحمل إليه كتاباً هو خاص الخاص. وأخذ يشرح له مزايا الكتاب العجيب الذي سيمكنه من مواصلة استشارة صاحبه بعد الموت: «فيه شيء لا يُحصى، وأقل ما فيه من الأسرار أنك إذا قطعت رأسي، وفتحته وعددت ثلاث ورقات، ثم قرأت ثلاثة أسطر من الصفحة التي على يسارك، فإن الرأس تكلمك وتجاوبك عن جميع ما سألتها عنه».

يحذرنا الأطباء اليوم من خطورة اقتراب اليد من الفم بعد لمس أي شيء لا نعرفه، لكن الملك يونان لم يجد من يحذره، وأخذ يبلل أصبعه من لعابه ليُقلِّب صفحات الكتاب المسموم، فمات!

سلطة الطبيب الخيِّرة يعالجها الكاتب السويدي بير أولوف إينكويست في روايته «زيارة طبيب صاحب الجلالة» التي ترجمتها للعربية سوسن كردوش قسيس، ونشرتها «دار المنى»

عام 2015. تحكي قصة أول حركة تنوير تبنتها السلطة خلال حكم الملك كرستيان السابع (1768-1772)، وكان شاباً بسيطاً مضطرب العقل، استطاع الطبيب الألماني التنويري يوهان فريدريخ سترونزي أن يكسب ثقته، وبات يصدر مراسيم تقدمية مهمة يضع الملك توقيعه عليها دون أن يقرأها، لكن الطبيب وقع في غلطة خلط العواطف بالسياسة. أقام علاقة مع الملكة، واستطاعت الحاشية أن تصطاده من هذا الخطأ، وتعدمه وتستعيد سيطرتها.

للطبيب صورة الملاك، لكنه قد يكون شريراً أيضاً، خاصة أن كلمة حكيم الفضفاضة تتسع لدجال مثل راسبوتين حمل لقب «معالج روحي»، دون أن يكون ضعيفاً أو منكسراً. لكن يوسف إدريس الطبيب أباح لنفسه أن يُصوِّر انكسار طبيب من أصل ريفي أمام زوجة قاهرية من أصل برجوازي في واحدة من أكثر قصصه رهافة «لغة الآي آي»، حيث يأتيه مريض ريفي كان صديقه في المدرسة، ولا يجد بداً من استضافته في بيته من أجل استئناف فحوصه في الصباح، حيث أمضى الليل إلى جوار صديقه القديم يحاول أن يكتم تأوهات وجعه خوفاً من الزوجة الساخطة المتسلطة.

والآن، تتطلع البشرية إلى الحكيم مكشوفة العصب، لعله يعلن الخبر السعيد: «خلصت أيامه»؛ أيام الوباء طبعاً.الصلاة من أجل مرضى العالم على طريق الآلام الخالي قبل عيد القيامة

يهرول الرهبان الفرنسيسكان وهم يرتدون عباءات بنية اللون عبر القدس المغلقة بشوارعها المهجورة إلى كنيسة القيامة محط الأنظار في أبرز الأعياد في التقويم المسيحي، لكن المدينة تخلو من زوار الأرض المقدسة في عيد القيامة.

من هؤلاء الأب فرانشيسكو باتون (56 عاما) حارس الأرض المقدسة في الكنيسة الكاثوليكية والمسؤول عن حماية المواقع المقدسة.

قال الأب فرانشيسكو بعد أن صلى أفراد المجموعة خارج الباب المغلق في الكنيسة التي تعد قاعدة لهم ”نعيش أياما غريبة. في العادة تمتلئ المدينة القديمة ... بالحجاج القادمين من أجل أسبوع الآلام“.

وتمثل المسيرة الشعائرية التي ينطلق فيها الفرنسيسكان على امتداد طريق الآلام الرحلة التي يعتقد المسيحيون أن المسيح عيسى سار فيها إلى موقع صلبه وبعثه.

وهذه السنة تعرض على امتداد الطريق مجموعة من المجسمات البرونزية الجديدة تصور تلك الرحلة مُهداة من فيرونا وقام بنحتها الفنان الإيطالي أليساندرو موتو. إلا أنه لا يوجد من يشاهدها.

وقال باتون ”من المحزن بعض الشيء رؤية ذلك ... لا أحد قادر على السير فيه (الطريق). لكننا نعلم أن كثيرين في هذه اللحظة يسيرون على طريق آلام خاص بهم عندما أفكر في الموجودين في المستشفى وفي بيوتهم يكافحون فيروس كورونا“.

وتجاوز عدد المصابين بمرض كوفيد-19 الناتج عن فيروس كورونا 8600 في إسرائيل وبلغ عدد الوفيات 52 حالة. ويلزم السكان بيوتهم باستثناء الخروج في الحالات الضرورية التي لا تشمل الشعائر الدينية.

ولذا فإن الطوائف المسيحية التي تتقاسم السهر على كنيسة القيامة تواجه إغلاق مواقع لم يسبق له مثيل فيما تعيه الذاكرة مثلما هو حال القيادات الإسلامية واليهودية في مدينة تضم مواقع مقدسة في الأديان الثلاثة.

ويشهد الشهر الجاري عيد الفصح اليهودي وعيد القيامة المسيحي وشهر رمضان. ويحتفل الكاثوليك بعيد القيامة يوم 12 ابريل نيسان.

ومثل غيرهم من رجال الدين يلتزم الرهبان الفرنسيسكان بإرشادات التباعد الاجتماعي إذ يتلون صلواتهم على امتداد طريق الآلام ويتوقفون عند محطات الصليب الأربعة عشرة التي تمثل وقائع الأحداث الأخيرة التي تنتهي بدفن المسيح.

وعندما يصلون إلى القبر يصلون من أجل المرضى ومن يحتضرون في مختلف أنحاء العالم والعاملين في القطاع الطبي مثلما كان أسلاف الأب فرانشيسكو يعالجون المرضى في العصور الوسطى.

وقال الأب فرانشيسكو ”بدأت طائفة صغيرة من الفرنسيسكان الإقامة في كنيسة القيامة عام 1333 ولذا يمكنك أن تتخيل ما يعنيه ذلك المكان لنا“.

وأضاف ”... مسؤولية الصلاة في المكان الذي قهر فيه المسيح الموت، أن نصلي من أجل كل هؤلاء الذين يواجهون الموت في هذه اللحظة“.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي