
نعيمة عبد الجواد
عندما سألوا القاص الروسي الشهير أنطون تشيخوف عن سبب ارتدائه ملابس سوداء طوال الوقت، أجابهم بهدوء: «لأني أقيم الحداد على حياتي». اخترق البؤس حياة تشيخوف منذ صغره، وإن كان ذاك البؤس عينه، هو ما صنع له اسما لامعا في عالم الأدب. فإن كان «ليو تولستوي هو الأب الروحي للرواية في روسياٍ»، فإن أنطون تشيخوف يماريه المكانة نفسها محليا وعالميا، لكن في فن القصة القصيرة، الذي جعل منه مرآة جريئة تعكس الواقع بكل مآسيه، وإن غلَّف الواقعية التي تدمي القلوب بطبقة سميكة من الأسلوب الساخر، الذي قد يثير الضحك، لكنه في الوقت نفسه يجعل عقل القارئ يفكِّر بعمق في ما يطرحه تشيخوف من قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة، وكأنه يفعل ذلك عن قصد حتى يثير حفيظة القارئ ويشحذ فكره.
والغريب أن الأدباء العالميين كانوا لا يعاملون تشيخوف، في بداية الأمر، بجدية؛ بسبب هذا اللون المستحدث من القصة القصيرة التي يقدمها، بل كان الكثير منهم يتهكمون عليها. ومع ظهور أجيال جديدة ذات فكر واعٍ عميق، مثل «تي. أس. إليوت» T. S. Eliott وجورج برنارد شو George Bernard Show، أدركوا مدى العمق الذي يتناول به قضايا اجتماعية شديدة التعقيد، بأسلوب ممتع يسيل بسلاسة كالماء، فقد كان ذكاؤه المتَّقد وتركيزه الشديد على أي أمر يشعر بأنه شديد الأهمية ويجب معرفة المزيد عنه، وكذلك عرض التجربة للقارئ بشكل لائق مؤثر، كان يشابه إلى حد كبير أسلوب السيكوباثيين في معالجة الأمور محلّ اهتمامهم.
وقد عالج عالم الطب النفسي الإنكليزي كيفين داتون Kevin Dutton (1967) في كتابه «حكمة السيكوباثيين» The Wisdom of Psychopaths ذلك الجانب من النفس البشرية. فالمعروف عن الأشخاص السيكوباثيين أنهم أعداء المجتمع؛ فهم طائفة من المجانين بلا جنون، وذوي عقل إجرامي منظَّم، وعند اقتراف أيٍّ من جرائمهم يفعلون ذلك بأكثر الطرق وحشية، وكذلك بتركيز لضمان التلذذ والاستمتاع. وباستقصاء الأمر من جميع الجوانب، وجد كيفين داتون أن أعراض الإصابة بالسيكوباثية متفشية بين العديد من البشر؛ فليس بالضرورة أن يكون السيكوباثي عنيفا أو أن يكون تفكيره إجراميا بالصورة نفسها المتعارف عليها. والعجيب أن الأفراد السيكوباثييين غالبا ما يعتلون أعلى المناصب في المجتمع، سواء أكانوا من العلماء أو كبار المديرين والتنفيذيين وكذلك الساسة. ويشترك كل هؤلاء مع النموذج التقليدي للسفاحين السيكوباثيين في الشعور بالذات والقدرة على الإقناع والشعور بالعظمة والفتنة وعدم الرحمة والتلاعب بالآخرين، ومن الواضح أن قادة العالم وكبار السياسيين، كلما تعاظمت لديهم كل هذه القدرات، تمّ اعتبارهم عقليات منظمة فذَّة قادرة على صنع التاريخ.
فالسيكوباثية تدرور في فلك أربعة أبعاد: بُعْد العلاقة مع الآخرين، والبُعْد العاطفي، وبُعْد أسلوب الحياة، وأخيرا بُعْد مُعاداة المجتمع. وبالتأكيد، يندرج تحت كل بُعْد درجات كثيرة وصفات أكثر، وتظهر الشخصية السيكوباثية كمزيج من كل الأبعاد. ولهذا، يجب أن لا نختصرها جميعا في بُعْد واحد وهو معاداة المجتمع، ونُطلق جُزافا أن جميع السيكوباثيين يقترفون جرائم بشعة بدم بارد. وهؤلاء هم السيكوباثيين الناجحين الذين نجدهم في مجالات عديدة مثل القانون والطب والسياسة والمحاسبة. فأهم ما يميِّز السيكوباثي الناجح هو القدرة على اتخاذ القرارات بتصميم دون تردد، فهو كالجرَّاح الماهر، الذي يتَّخذ القرارات الحاسمة في الأوقات الحرجة. ولعل أشهر نموذج وقريب من الأذهان، هو شخصية أبطال السينما في أفلام الحركة الذين يجابهون الأعداء بدم بارد ولا يهابون المغامرة، حتى لو كانت إلقاء أنفسهم من طائرة أو مبنى، فهم لا يكترثون بالعواقب السلبية؛ لأن تركيزهم فقط على ما قد يحققونه من نفع لو أثمرت المجازفة.
وقد أحيط أنطون تشيخوف (1860-1904) منذ الصغر بجميع الظروف التي قد تصنع منه سيكوباثيا عنيفا عتيدا في الإجرام، فقد ولد في الريف في أسرة فقيرة محاطا بالفقراء والكلاب الضَّالة والحيوانات. أمَّا والده، فكان سكِّيرا يتفنن في ضربه وتعنيفه، حتى لو على أتفه الأمور، وعندما أفلس والده تماما وأصبح غارقا في الديون، لم يجد بُدّا سوى أن يترك القرية التي عاش فيها وينتقل إلى مكان آخر، فما كان من تشيخوف إلَّا أن اجتهد وعمل منذ الصغر حتى يعيل عائلته، وكذلك كان يكتب القصص القصيرة ويبيعها للصحف والمجلات حتى تتوافر لديه النقود. فقد كان يعمل بأكثر من طاقته بصبر وإصرار وتركيز، دون أن يحيل تقلُّب الظروف بينه وبين غايته في كسب المال وإشباع هوايته الأدبية، وفي الوقت نفسه تحقيق ذاته في الحياة العملية؛ فقد استطاع في خضم ظروفه الصعبة تلك أن يصير طبيبا ناجحا، وفي الوقت نفسه كان أديبا متميِّزا. أمَّا القرار الأكثر سيكوباثية في حياته، الذي أثار إعجاب الكاتب الأمريكي الشهير روبرت غرين Robert Greene (1959) صاحب كتب تطوير الذَّات الأكثر مبيعا، ومن أهمها: «قوانين القوَّة الـ48» The 48 Laws of Power و»فن الإغواء» The Art of Seduction ـ هو قدرته على أن يُسامح والده على ما اقترفه في حقه من تعذيب نفسي وجسدي، عندما كان طفلا، وإرهاقها نفسيا وماديا عندما كان يافعا، عندما أجبره على أن يصبح عائل الأسرة. قد يظن البعض أن قدرته على التسامح، مصدرها الرَّحمة، أو القلب الرقيق، لكن العكس هو الصحيح. فقد كان مثل طبيب جرَّاح ماهر اختار أن يزيل سرطان الشعور بالقهر والحقد من البُعْد العاطفي لديه، عندما حلل الموقف بعقلانية واستخلص أن إساءات والده له وإدمانه الشراب مصدرهما ما ذاقه هو نفسه من والده من معاملة سيئة في صغره، وكذلك أدرك أن الفقر المدقع والحظ السيئ الذي أحاط بوالده منذ طفولته قد ساهم في ذلك. لقد سامح والده بسبب أنه أدرك أن الشعور بالحقد سوف يكون عائقا له في مواصلة تحقيق أحلامه، وأنه قد يعمل على تشويش عقلانيته وذكائه، وأهم من كل ذاك نجاحاته التي كانت تضخم لديه الشعور بالأهمية وسمو الذَّات.