شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

"منديل بالفراولة" لخليل الرز: العالَم منفيّاً

2022-08-08

عباس بيضون

لا نستطيع بسهولة أن نختصر "منديل بالفراولة"، آخر أعمال الروائي السوري خليل الرز (منشورات "ضفاف" و"الاختلاف"، 2022). ذلك أن الأحداث ليست قوام الرواية، أي أنها تبقى في أرضيّتها، وتجري كما هي في مُعتادها، تتّصل وتتقدّم بدون أن تتعرّض لنزاعات عاصفة وتحوّلات عميقة. وهي، أي الأحداث، تدور كما في سمتها وموازينها، أي أنها تجري في خلفية الرواية وعلى طول مساحتها، بدون أن يكون ذلك سوى استعادة ورجوع على البدايات. إذ إنّ الرواية الحقيقية تدور تقريباً خارج الأحداث أو على هامشها؛ تدور في ذوات الأشخاص، وخاصّة ذات بطل الرواية.

هذه الذات هي مساحة أخْذ وردّ، وتأويلات تتراكم فوق بعضها بعضاً. لا تتراكم فحسب، بل تتفاوت وتتباين وتختلف وتتغاير، وتكاد تتنازع، لولا أن شأنها شأن الرواية كلها، في كونها تلتفّ حول مسائل وتجمعها إلى بعضها بعضاً مع كلّ تفاوتاتها وتمايزاتها، دون أن يؤدّي ذلك إلى انفجار عاصف، أو إلى سقوطٍ أو نهوضٍ ساحقَيْن، أو إلى معارك معلنة.

خليل الرز لا يكتب ملحمة ولا يدير درامات، ولا يُعلن حروباً أو صراعات أو انقسامات من أي نوع. إذا كانت النفس هي ميدانه، فإنها ليست أقنوماً وليست ساحة حرب، ولا تُشرف في ذلك على سقوط أو نهوض، ولا تنحاز إلى مبدأ أوّل ولا تنقسم بين حقّ وباطل، أو خير وشر. خليل الرز يبني على النفس، ويكون همُّه في أن يستفسرها ويعود إليها، ويوازن بين أطرافها ووجهاتها. إذا كان كذلك فلأن النفس ليس لها ماهية واحدة بالنسبة إليه، ولأنها، في تفرُّعها وتفاوتاتها وتمايزاتها، إنما تنقل  الرواية إلى ما لا يمكن الركون إليه أو اعتباره حقيقة أو كالحقيقة.

النفس هي مدار الأحداث في رواية خليل الرز، لا لشيء إلّا لأنها لا تستقيم على شيء، ولا تملك وجهة، ولا تملك حقيقة؛ هي وليست على هذا النحو حدثاً واحداً، إنما تجاذُب أحداث وإرادات ووقائع. يمكننا عندئذ أن نفهم أن الذات الراوية هي مسرح الأفعال، وأن تجاذباتها هي الأحداث الحقيقية ــ وهي بالتالي التنازعات والأفعال والاختلافات ــ إلّا أن ذلك لا يُفضي إلى معارك فعلية، أو صراعات كاسحة، أو انفجارات من أي نوع. الرواية لا تفعل أحياناً سوى أن ترصف التأويلات والتفاسير، بل والتحقيقات، الواحدة جنب الأخرى. فليس إيمان الراوي بالنفس فوق إيمانه بالأفعال؛ إنه ــ من أوّل الرواية إلى آخرها ــ يضعنا في واقع النصف، بين الحقيقة والتوهُّم. في واقعٍ يعصى عليه أن يجد حقيقة أو يصل إلى حقيقة.

نحن هكذا في دركٍ من اللعبة؛ الأحداث ميتة وجامدة، لكنّ اللعب داخل النفس وعلى النفس. الأفكار تلعب، لكنّها في لعبها تتحوّل إلى وقائع وإلى أحداث، في حين أنها، أثناء ذلك، تنفي هذا الإمكان. يتلقّى الراوي رسالة من يارا تدعوه فيها إلى أن يلاقيها في الغابة، وسيعود من هذا اللقاء مبلّلاً. كأن الابتلال نوعٌ من نقض اللقاء. الراوي يعرف نفسه، كما يعرف غيره أكثر ممّا يعرف ذاته، في نوعٍ من الفانتازيا، لكنّ هذه المعرفة ليست بالأساس سوى نقيضها. والرواية على طول هذا الخطّ لا تفعل سوى أن تنفي نفسها. إذ إن توجُّس الراوي من كلّ شيء، وانقلابه على كلّ شيء، هما عصارة تفكيره الذي لا يسلم بشيء. مع ذلك، فإن يارا الأذرية في روسيا، تعود إلى باخوس بعد أن تصدّى الأذريون لعلاقتها بالراوي خارج الزواج. هذا التصدّي بالكاد يُلمَح، فالرواية لا تعوّل كثيراً على الأحداث. إنها تعول أكثر على رموز.

هكذا نجد الراوي مصحوباً، طوال الوقت، بالدمية التي تبقى مع ذلك عنواناً شِعرياً، أو شبه شِعريّ؛ وكذلك سيكون الأمر مع الفراولة. للفراولة والدمية في رواية خليل الرز حقيقة أين منها حقيقة الأشخاص، وحقيقة الأحداث. كأنما العالم الحقيقي، في الرواية، ليس في الأحداث والأفكار، بقدر ما هو في الرموز والعناوين. العالم ليس في قصّته وتفاعلاته، إنه في هذه العناوين التي يغدو لها مجرى طقوسيّ. إنها وحدها أقانيم، أو إشارات لحقيقة لا تملك سوى اسمها وعنوانها. هكذا نقرأ تاريخ الفراولة وحكاية الدنيا على أنهما ليسا مهبّ نزاع، وليسا مسرح إنكارات تكاد تصل إلى حدّ التكذيب. هكذا نجد الشعر إلى جانب السرّ، والرموز بدل الوقائع.

شاعر وروائي من لبنان







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي