شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

سعدي يوسف… الذي أحيى التفاصيل في الشعر العربي

القدس العربي
2021-04-15

الرباط - إنّ شاعراً في التسعين ليس بالأمر الهيّن. لكن تخيّلْ أن هذا الشاعر التسعيني ليس سوى سعدي يوسف الحالم دائمًا، والمنفيّ دائمًا، والغاضبُ دائمًا. ما أوجع أن تتخيّل ذلك بإزاء صورة تتقاطع فيها خيبة الروح ووهن الجسد. وما إن كتبت إقبال كاظم رفيقة الشاعر العراقي: (سعدي يصارع المرض… بعد مسيرة طويلة، «هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي»)، حتى تضامن الجميع؛ أصدقاؤه وقراؤه ومحبّوه في كل مكان، مع سعدي الذي دخل أحد مستشفيات لندن في الرابع من هذا الشهر متأثرًا بمضاعفات سرطان الرئة، وقد بقي متكتّمًا على مرضه العضال طيلة الأشهر الماضية، يكابده بصمت وهيبة وكبرياء «الشيوعي الأخير». وكتب عباس بيضون: «سعدي يوسف مريض. إنّه فرط الشعر وفرط الحياة.»

الراية
□ في الوجهين اللذين رسمَتْهما الفنّانةُ المميَّزة نوال السعدون للشاعر سعدي يوسف (العام 2018) بصمةٌ خاصة تلوح في الالتفاتة والنظرة والخِلابة السمراء، لم تتأخر كثيراً، حينما تأخرَ المُعجبون والمناصِرون للشاعر في أزمته/ أزماته قبل المرض وبعده، في رسم خطوط النبوءة المخيفة..
يلتفت الوجهان المرسومان في استغراب، يقطعهما خطّ أخضر؛ ثم مع نظرة مستريبة يقوّسها خطٌّ أحمر، مرة ثانية. والخطّان ظلّان لما تبقّى من ذكرى بلادٍ ممزَّقة، مُرّة المذاق، علقا بلقبي الشاعر الشهيرين (الأخضر بن يوسف والشيوعي الأخير). فإذا بهتَت الذكرى، بقيَ الأثران، الوجهان المتخايلان، بقوسيهما المتلألئين، يتنقّلان مع رثاءٍ ينساب متمهلاً من فيديو يصوِّر الشاعرَ في جولة له في غابةٍ لندنية. الصوت يتصدّع، في الفيديو، كما البلاد، لكن حقيقة الجولة المتمهّلة، تسبق صدى القصيدة التي يلقيها مع وزن الخُطى وابتعاد الظلال. الرثاء المتصدّع، الوهنُ والأسف، الظلالُ الكثيفة، تكلّل جميعها وحدةَ الشاعر المريض، كما كلّلت جُبرانَ في مستشفى بأمريكا.. وكان الزائر الصديق ميخائيل نعيمة يُنصِت إلى «الحشرجة» المعترِضة حَنجرةَ المحتضَر، فيعظِّم صداها كقوس كمانٍ غير منظور..
لكننا هنا، في الوجهين، نُبْصِر الشاعرَ، ونؤوّل قوسيه الماثلين كعثرة طريق، وبُعد مزار، على كمان الحشرجات الصامتة.. يغفر لنا، قبل أن نغفر له أوزاراً، حمّلناها فوق ما احتمل. وليس ذنبَ الشاعر أنّه مطرود من رحمتنا، رحمةِ البلاد المنكِرة، وقد أعادتْها نوال السعدون لتلصقها (الرحمة) بوسمين، أخضر وأحمر، فحسب. وحول ذلك، أو دونه، نظراتٌ لا تكفّ عن الاستغراب والريبة، مركّزة حول نقطةٍ غائبة في سُمرة البلاد المتصدّعة، البعيدة.
هل ننتظر القوسَ الأسود، الثالث، لكي يرتسم وجهُ سعدي يوسف رايةً تغطّي وجهَ الأرض التي وطأتها قدماه، وخرج منها خالباً مخلوباً؟ أأننتظر الوعدَ الأسود وتنطفئ العينان؟
ويلاه! تلك لحظة الشعراء وحدهم، المحمّلين «وِزرَ» التاريخ الأسود.
ليس وِزرَك يا سعدي، وحدك؛ فهو وِزرُنا جميعاً، بأقواسه الثلاث!
وثِق بأنّ الراية لن تنكّس، حين تختفي الخطوات من الغابة!
محمد خضير (كاتب وقاص عراقي)

 

ما يعجبني ولا يُعجبني في موضوع سعدي يوسف
□ غريب أمر هذه الأمة، عجيب وضع الكثير من المثقفين العرب على وجه التحديد. لعلّ من بين أجمل الأشياء وأنبلها أن نكتب عمّن قدّموا خدمة في مجال ما، خاصة فيما يهمّنا نحن، أعني حقل الشعر والأدب والثقافة. أن نكتب عن سعدي شاعرا ومثقفا أو سواه، ليس فضلا بل هو واجب أخلاقي علينا جميعا أن نراعيه، كل حسب اهتمامه واختصاصه وإمكانياته ووقته.
قرأت الكثير وما لم أطّلعْ عليه أكثر في ذمّ ومقاطعة سعدي يوسف والتطاول على آرائه ومواقفه. الهجوم ثم الهجوم ولا غير. غريب، أمة لا تعرف غير المدح أو الهجاء! كان على من يختلف معه أن يُبيّن وجهة نظره بناء على تقليد عربي متوارث: «الاختلاف في أمّتي فضيلة» وليس مثلبة.
معظمنا كانت له علاقة مع سعدي بغضّ النظر عن طولها وقوّتها، فالرجل متواضع وطيب القلب لكنه، على ما يبدو، لم يَجدْ بُدّا من المقامرة بمواجهة الاحتلال وقُطّاع الطرق في العراق بعد 2003، وأحيانا كان يثير زوبعة هنا وهناك. كان له الحق في أن يقول ما يريد شأنه في ذلك شأن كل حر. لكن العقل الإقطاعي، وذاك القضيبي- الأسير لا يمكنه فهم حق إبداء الرأي. إن كانت لسعدي مثلبة فهي فقط في أسلوب و«شراسة» انتقاده لا غير، وليس فيما كان ينتقده أو يتناوله. أقول:
من النبل أن يقف واحدُنا مع الآخر في محنته، من دون تنطّع وتطاول وادعاءات فارغة باجتراح المعجزات وتسقيط فلانٍ والإعلاء من شأن آخر، واستغلال المناسبة لهذا الغرض أو ذاك.
سعدي الشاعر والمثقف الكبير يرقد حاليا في المستشفى وما علينا سوى أن نتمنى له الشفاء العاجل وطول العمر، فحضوره معنا ضروري جدا لتنقية هواء المنطقة الذي يزكم الأنوف حتى لو اختلفنا معه. تحية لسعدي حاضرا أو غائبا، هذا ما قلته له في أكثر من مناسبة. عذرا لك سعدي لأنني لم أفِ بوعدي بجلب قنينة الفودكا البولندية التي تنتظر لحظة وصولها إليك منذ أربع سنوات، لأسباب خارجة عن إرادتي. ولن أنسى قولك لي: «أنت لا تحتاج يا هاتف لمن يُقدّم ديوانك» وكان يقصد مقدمة «فراديس أيائل وعساكر»(المدى، 1998).
لك يا سعدي الصحة وطول العمر وللشعر العربي أن يقلقَ ويحزن كثيرا.
هاتف جنابي (شاعر ومترجم عراقي)

سعدي يوسف وابنه حيدر في تونس 1992

شكراً سعدي…
□ لقد سمعت للتوّ من رفيقته الأستاذة إقبال كاظم أن الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف يصارع المرض. سعدي يعد من أعظم الشعراء المعاصرين الذين كتبوا بالعربية، وهو مع أدونيس ومحمود درويش، أحد عمالقة الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. استمدّت ممارسة سعدي الشعرية من العديد من المصادر، من الأغاني الشعبية في جنوب العراق حيث نشأ إلى زهد المعري، ومن الصور الشفافة للشاعر الصيني لي بو إلى أغاني لوركا العميقة، بالإضافة لارتباط وحوار مستدام مع شعر السياب. نشر سعدي ما يزيد عن 40 مجلداً من الشعر والمقال الأدبي والقصصي، وعددا أكبر من الترجمات تنوعت من قصائد والت ويتمان الامريكي لروايات نقوقي وا ثينغو الروائي الكيني. كان لي الشرف بتقديم أعمال سعدي الشعرية لقراء اللغة الإنجليزية، وعلى مرّ السنين أصبح سعدي صديقًا عزيزًا ومرشدا عميقًا ومضيفًا كريمًا مبهجًا كلما التقيت به.
أتمنى لسعدي الشفاء العاجل وأن أراه قريبا في بيته المتواضع الجميل. ولا يفوتني كغيري ممن قرأوا شعره أن أشكره على ما أضافه للغتنا وللشعر العالمي من دقة في التعبير وروعة في الإيقاع، وللحس المرهف الذي صوّر به حياتنا ومعاناتنا، والذي بات أسلوبا شعريا يكرم الفرد والإنسان أين ما كان. شكرا سعدي، قلبي وقلوبنا جمعيا معك.
خالد مطاوع (شاعر ومترجم ليبي)

رسالة إلى الأخضر بن يوسف… رغم مشاغله
□ العزيز سعدي، أعرف، من خلال العزيزة إقبال، أنّك في وضع صعب، وأنّ نفسك الشاعرة، هي فقط، ما تقاوم به الغياب. فأنت لم تعش حياة، بل عشت حيوات، بكل ما فيها من أفراح وجراح، لم تستسلم لنزوات السلطة، ولا لإغراءاتها، اكتفيت بالشعر كخيار وحيد في وجودك، ما كتبته من روايات، لم يكن مهما عندك، إلا بقدر ما هي الشعر لا بسا ثوب الحكي. لم أكلمك، كما تعودنا أن نتقاسم ما جمعنا من قلق، ورغبة في السؤال، فأنت لست في البيت، إقبال وحدها ترد على سؤال الأصدقاء والمحبين، وكم كانت إقبال متأثرة بما أنت فيه من حرج، وكانت تتكلم عنك بما عرفناه عنك من كرم وسعة روح. الشاعر، يا صديقي، لا يؤمن بالألم، لأنه يستدرجه، ويعتبره جزءا من حبره الذي به كتب كل أشعاره.
مهما تكن الأسباب، فالأخضر بن يوسف له مشاغله، حتى وهو طريح الألم، ونحن، سعدي، على وعدنا، أن نحفر في مجرى الشعر عينا، كلما بدا لنا أن المجرى استقر على سطح ما لا يبرحه.
في انتظار سماعك وأنت تسأل، وتتقصى، ويشغلك أن تعرف ما يجري من شعر في المغرب، فأنا، مثل العزيزين من الأصدقاء الخلص، سأكون رهن محبتك وصداقتك، كما كنا دائما، بما تميزت به من تواضع وحس إنساني كبير وعظيم.
صلاح بوسريف (شاعر وناقد مغربي)

إلا فلسطين
□ الشاعر الكبير سعدي يوسف في حال صحية حرجة.
تناقضات أمة بكاملها، إن كان هناك أمة اصلا، هذا الرجل. وفي أعوامه القليلة الماضية انفجر وتفتّت كما تفتّتت الأمة ذاتها. لكن فلسطين ظلّتْ من بين الأشياء القليلة الموحدة في كيانه. اشتبك مع كلّ شيء، اشتبك مع ذاته، واشتبك حتى مع عراقه، لكنه لم يشتبك أبدا مع فلسطين.
فلسطين ترفع يديها بالدعاء لسعدي يوسف.
زكريا محمد (شاعر فلسطيني)

إلى سعدي يوسف وهو يُصارع المرض
□ من مِعطفِ سعدي،
يخرجُ شعراءٌ،
ورِوائيّونَ،
وبحّارةْ
٭ ٭ ٭
وهو المشّاءُ ،
فلو يحدثُ أن تفتحَ أطلسَ هذا العالمْ،
لرأيتَ الخُطُواتِ الحمراءَ لسعدي،
وهو يجوبُ أماكنَ لم تُستكشَفْ بعدْ،
لرأيتَ مساراتِ النَّسْرِ يُؤالِفُ بينَ القارّاتْ،
ورأيتَ على دغَلِ الغابةِ آثارَ النزفْ
٭ ٭ ٭
بينَ السيّابِ وسعدي بعضُ صِلاتْ،
البصرةُ واسمُ الزوجةِ إقبالْ،
والنجمةُ عاليةً عاليةً،
يتدلّى منها نهرُ بُويَبْ
٭ ٭ ٭
الآنَ انهَضْ يا سعدي،
ثَمَّ ملاكٌ أخضرُ يَطرُقُ شُبّاكَ الردهةِ في المشفى،
فانفُضْ عنكَ الأسمالْ،
وارحلْ معهُ صوبَ النُّسغْ
٭ ٭ ٭
أنتَ تحبُّ المَوصِلَ مثلي،
وكثيراً ما تسألُني عنها،
وتقولُ: احذرْ يا ولدي،
( لا تقلِبْ سِتْرتَكَ الأولى حتى لو بَلِيَتْ).
٭ ٭ ٭
حذفوكَ من المنهجِ يا سعدي،
حرَقوا كُتْبَكَ في الساحاتْ،
لكنْ سنظلُّ نُغنّي أشعارَكَ كالمنشوراتِ السِّريّةْ،
نَمزُجُها بحليبِ الأطفالْ،
فيَشِبُّونَ على معنى الحريةْ..
عبد الله سرمد الجميل (شاعر عراقي)

مع رفيقته إقبال كاظم
كلّ الأغاني انتهت إلا أغاني الناس!
سلاماً لشيخ الشعراء سعدي يوسف وهو يصارع وحشي المرض والشيخوخة
وأحيّي، بمحبّة كبيرةٍ، مرورَ المتجوّل الأخضر في الأرض واللغة والأسلوب. الشاعر الذي يسير واثقاً ترفعه فرادة التجربة ومهارة النحلة؛ فقد ظلّ على مدى تسعة عقود يجمع لنا رحيق الشِعر أينما وجده. وأنّي أميلُ، بشكلٍ خاصّ، إلى أغلب شعره المتأخّر وأثني عليه.
الجمال لا يموت. قد ينزع المصيرُ عن روح الشاعر عناءَ الوجود الفيزيائي إلا أنهُّ يظلّ يُحلّق في زمنه الخاص مثل طائر !
٭ ٭ ٭
جاءت إليّ يمامتانِ
وحطّتا فوق الوسادة في الصباح…
وقالتا:
سنكون، يا سعدي ، جناحيكَ !
انتبهْ!
إنَّ الحياةَ كريهةٌ
لو عشتَها متتبّعاً مَنْ هبَّ أو دبَّ…
الحياة كريمةٌ
لو عشتَها كالطير… يا سعدي !
إبراهيم الماس (شاعر عراقي)

ظلال الشاعر الألماني ريلكه في فيلم الأخضر بن يوسف
□ هنا – أقصد في فيلم الأخضر بن يوسف – ليس النور معتدا بذاته ولا الأشجار واثقة من عريها
هنا الغابة تجل لحاجتنا الغامضة إلى الهروب إلى الشعر.
ليس بمعنى التيه بقدر ما هي انفتاح على أسئلة الكينونة وعلى مساراتها المنفلتة وخرائطها الضالة واحتفاء أيضا بالمنبثق فجأة، بجمالية الاقتناص، وشعرية الجري وراء المبعثر.
يعجبني كثيرًا الشاعر الألماني ريلكه حين يقول إن الأعمال الفنية تنبع دائماً من أناس واجهوا الخطر، ووصلوا إلى النهاية القصوى للتجربة، وصلوا إلى نقطة لا يستطيع أي كائن إنساني أن يتجاوزها، وكلما ازدادت جرأة الإنسان على التوغل، كلما أصبحت الحياة أكثر جدارة للاحترام وأكثر ذاتية وأكثر تفرّداً. فالفيلم يصور بلغة الظل والضوء وشعرية الصورة كتابة سعدي يوسف كما حياته كقوة نابعة من الخطر كما الرعد والبرق وفي نفس الآن هي كرغبة متجددة للتحرر من أسر الوجود وابتكار صيغة خاصة ومغايرة في خضم مغامرة البحث في العزلة والفوضى والسديم إلى درجة يمكن القول إن الفيلم يروم إعادة تشكيل الكون الجمالي لسعدي يوسف من خلال هذه المفردات ويراهن على اختراق المتاهة كتجلٍّ لقوة الحياة وإرادة الشاعر، وعلى تفكيك بعض المفاهيم التي شكلت ثوابت الذائقة الجمالية العربية الكلاسيكية؛ مفاهيم مثل ‘المنفى’ و’الحنين’ و’الوطن’ و’الغربة’ و’الموت’ و’الكتابة’…
من يشاهد هذا الشريط لجودي الكناني وباسل علي عمران يخرج بقناعة مفادها أنه ليس في النهر شقاء الماء، ليس في الماء صمت الوجود، ليس في الغابة معنى واحدا لأغنية العصافير وليس في الشجرة ظل حطاب. في النهر بعض النهر، في الماء لون الماء، في الغابة وحشة وذئاب وفي الشجرة سناجب وبوم. فلنظل إذن يقظين وغامضين في عالم لا يفضي إلا لعري الوجود. فثمة دائما عشب مثقل بالندى ونهر في عمق تيه الوجود يصونان دهشتنا كزوّار في هذه الحياة الغريبة، ويأبيان أن يصير وجودنا وجود غفل على هذه الأرض. هذا النهر الذي يحول الوجود داخل المتاهة إلى ابتكار للحاضر واختبار قدرتنا على إمكانية المغامرة في المجهول والاختلاف، والانفلات من مكر التشابه والتطابق حيث يتآلف من العقل والعاطفة والخيال والأسلوب وتزداد نسبة عذوبته بقدر خيانة الماء للضفاف.
لكن يا سعدي
كيف يخون الماء الضفاف؟
هل السر في تدرج الزرقة على الشجر عند الفجر
أم في لون الغيم على ورقة السنديان؟
رشيد منسوم (شاعر مغربي)

عليه السلام
□ سعدي يوسف ابتسم حين رآني صباح اليوم واقفاً في باب غرفته في المستشفى ورفع يديه مرحباً، جلست عنده ثلاث ساعات فوجدته قوياً متماسكاً يدرك وضعه الصحي ويعيه جيّداً ويتقبله بشجاعة ورضا، ذاكرته كما عهدتها حاضرة سريعة ومتوقدة.
حدثني عن اللغة والشعر وعن أسلوبه في بناء عبارته الأدبية، وحدثني عن دور الإمام علي وأثره العظيم في اللغة العربية.
سألني عن بعض الأشخاص يطمئن عليهم، وأخبر الممرضة «الرومانية الأصل» عن بعض الأدباء من أبناء جلدتها وذكر أسماءهم وبعض أعمالهم فأدهشني وأدهشها.
تحدث عن العراق بألم وحرقة وشعور بخسارة عظيمة وإحساس بفقد عظيم للوطن، لكنه مع كل ما تقدم ضحك حين داعبته ومازحته….
أبلغته سلام من حملوني السلام عليه ففرح بها وبهم وأبلغني سلامه لهم.
حسان الحديثي (كاتب وناقد عراقي)

قصائد لندن الأخيرة

أغنيةٌ فرنسيّةٌ
قهوةٌ بالحليبِ
وخبزِ الأهِلّةِ
باريسُ …
كُرسِيُّ مقهى على النهرِ
آنَ الظهيرةِ
باريسُ …
دَوحُ غريبٌ بغابةِ فَنسانَ
باريسُ …
جازٌ خفيفٌ مع الثلجِ
في مَرقصٍ بالضواحي القريبةِ
باريس …
كأسُ النبيذِ التي لم تفارِقْ
شفاهَ الـمُـغَنّينَ
باريس …
بيتُ الـمُهاجرِ
والشاعرِ الفوضويّ وقطّتِهِ
والمسارحِ
باريسُ…

٭ ٭ ٭

لكنّ باريسَ في لحظةٍ
سوف تنأى عن اللمسِ، نافرةً
كي تظلَّ على حافةِ الحُلمِ
باريس …
لندن في 21.03.2021

مُداعَبةٌ
قد طالما كانت « تغاريد» الجميلةُ
تستفزُّ المرءَ،
كانت، كالشريطِ مُسَجَّلاً
تجتاحُني، في مَعْزِلي، وتقولُ :
قد آنَ الأوانُ …
ألمْ تفكِّرْ بالزيارةْ؟
وأنا أقولُ لها:
تعِبْتُ ….

٭ ٭ ٭

وما أتى بكَ، أيُّها المجنونُ
حتى تنتقي أهلَ العِمارةْ؟
إنْ كنتَ بِصريّاً
فَعُدْ للبصرةِ الفيحاءِ
عُدْ لأبي الخصيبِ
ونهرِ جيكور،
إلى اللبلابِ في «حمدانَ »

٭ ٭ ٭

ليس لروحكَ البيضاءِ
أن تهفو
إلى أهلِ العمارةْ !
لندن في 08.03.2021

ليليّةٌ
حمَلَ القطارُ، وشالَ .
ماذا كان يحملُ؟
قالَ أحمدُ: كان في العرباتِ جُنْدٌ .
قالَ عيسى: كانت العرباتُ ملأى بالتوابيتِ الجديدةِ .
قالَ موسى: في القطارِ سَبائكٌ ذهَبٌ .

٭ ٭ ٭

إذاً
حمَلَ القطارُ، وشالَ .
كانت في قطار الليلِ أُغنيةٌ
وكان الصوتُ لامرأةٍ تَئِنُّ :
يظَلُّ يضربُني، بتلك الخيزرانةِ
طولَ ليلي …
إنني امرأةٌ مهذّبةٌ،
وأهلي سادةٌ بـ«أبي الخصيبِ »
وكان لي نخلٌ وبستانٌ،
ولكني هنا في منزلِ الغُرَباءِ …
والزوجُ الغريبُ يظلُّ يضربُني طوالَ الليلِ
يضربُني شديداً
هكذا
بالخيزرانةِ
أيُّ ليلٍ كان ذاكَ الليلُ، أيُّ اللّيـْ ؟

٭ ٭ ٭

حَمَلَ القطارُ ، وشالَ
ماذا كان يحملُ؟
لندن في 07.03.2021

رؤيةٌ
مثلَ ما يتفاءلُ طيرٌ
نظرتُ من النافذةْ …
كان بيني وبين البُحيرةِ دَغْلٌ،
ولكنه الآنَ
عُريان …
ليس سوى هيكلٍ من جذوعٍ،
ومِـمّـا تَقَصَّفَ؛
حتى الطيورُ التي كنتُ أعهَدُها حُرّةً
همَدَتْ فوقَ أغصانِها
واختفتْ في الـمَـخابيءِ تحت السياجِ .
وآنَ التَفَتُّ إلى الساحةِ، ارتحْتُ :
كانت هنالكَ سيّارةٌ
وثلاثٌ من الـمُـسْعِفاتِ اللواتي ارتدَيْنَ السوادَ …
وفكّرْتُ :
لستُ وحيداً، إذاً !
لندن في 28.02.2021

 

أقترحُ نَخْباً !
وفعلتُ، هذا السبتَ، مثلَ الإنجليزِ
نعمْ !
كتبتُ وصيّتي
(كان الشهودُ ثلاثةً، بل كُنَّ في صِدقٍ ثلاثاً)
هكذا …
ودفعتُ آلافاً الى الـ Cooperative Bank
أيْ « بَنك التعاونِ »
كي أُذَرّى كالرمادِ،
نعم !
بمَحرقةٍ، هي عند مستشفى قريبٍ،
قلتُ :
خيرٌ لي، الحريقُ هنا
نعم !
في هذه الدنيا،
وليسَ، كما يقالُ، هناك، في يوم الحسابِ …
فمَن، تُرى، يدري ؟
لَـرُبّتَما تكونُ عقوبتي، يومَ القيامةِ، أفدحَ !

٭ ٭ ٭

الآنَ
استرحتُ، كما أردتُ :
وصيّتي كُتِبَتْ
وكُلْفةُ مَحْرَقي، دُفِعَتْ .
«إذاً … فلأقترِحْ نخباً !
لأرفعْ عالياً كأسي الرَوِيّةَ …
إنني أحيا !»
لندن في 24.02.2021

سعادةٌ
سأكونُ مَنْسِيّاً
كطيرٍ ميِّتٍ في منبِتِ القصبِ،
سأكونُ منسيّاً
كقبرِ أبي بنخلِ « أبي الخصيبِ«،
أكونُ منسيّاً
كأُمّي، وهي ثاويةٌ، بأقصى «سَبْخةِ العرَبِ…«
أقولُ :
الحكمةُ الأبديّةُ ابتدعتْ لنا النسيانَ
حتى نعرفَ الـحُـريّةَ …
النسيانُ
يرحمُنا من الذكرى
ويتركُنا إلى ما نشتهي ؛

٭ ٭ ٭

فَلْنَرْضَ بالكُتُبِ !
لندن في 12.02.2021

ضـباب
أنتَ تفتحُ عينَيكَ
تُبصِرُ هذا الضّبابَ المؤزَّرَ
يمحو البُحيرةَ …
تلكَ التي كنتَ تَعهَدُها ههنا،
والبيوتَ – الـمَراكبَ
والأشرعةْ …

٭ ٭ ٭

أنتَ تفتحُ عينَيكَ .
أغمِضْهُما
كي ترى كلَّ ما لاتراه العيونْ …
كي تُزِيحَ الضبابَ،
وكي تتْبَعَ الأشرعةْ .

٭ ٭ ٭

غيرَ أنكَ ترفضُ أن تُغمِضَ العينَ …
أنتَ تقولُ :
البصيرةُ ، تأتي ، كما هيَ ، بَعدَ البصرْ …
حسناً !
ما عليكَ سوى أن تكونَ العصا معكَ !
التلُّ يَتْلُعُ أعلى وأعلى من القريةِ،
التلُّ لَوّحَ …
فَلْتَرْتَقِ التلَّ
ولْترتَقِ التلَّ .

٭ ٭ ٭

في لحظةٍ سوفَ تهتفُ :
أينَ الضّباب ؟
لندن 10.01.2021







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي