شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

"علاج شوبنهاور" رواية تثبت أن الفلسفة دواء ناجع

2020-11-28

الفيلسوف الألماني قد يجد الحل ضد اليأس

هيثم حسين*

الرواية ليست حكاية يتخيلها الكاتب ويدونها ليسلمها إلى قرائه بغاية التسلية وتمضية الوقت، إنها أبعد من ذلك بكثير، فحتى وإن وفرت متعة الحكي والتشويق والإثارة وغيرها، فإنها في عمقها تسعى إلى التأسيس لفكرة ما، وهو ما التقطه روائيون ليؤسسوا ما يمكن الاصطلاح عليه بالرواية الفلسفية، مثل الأميركي إرفين د. يالوم الذي تدور جل رواياته حول أهم فلاسفة الحداثة، من سبينوزا إلى شوبنهاور إلى نيتشه.

يقدم الأميركي إرفين د. يالوم في روايته “علاج شوبنهاور” قصة جوليوس هيرتزفيلد، وهو طبيب نفسي في الخامسة والستين من عمره، يُصدم لاكتشافه أنه مصاب بسرطان الجلد، ويتواصل مع فيليب سلايت، وهو مريض سابق له كان قد عمل على معالجته من الإدمان الجنسي، لكنه فشل في ذلك، وأخبره سلايت أنّه أفلح في علاج إدمانه بالاعتماد على فلسفة شوبنهاور الذي يقتحم عالمه بحضوره وفلسفته وحياته.

تتناول الرواية، الصادرة عن منشورات الجمل بترجمة خالد الجبيلي، مراحل من جلسات العلاج النفسي، وكيف أنها تكمل سلسلة من الفلسفات السابقة، ولاسيما فلسفة شوبنهاور نفسه، وتقدم الفلسفة وعلم النفس والتحليل بأسلوب لافت بعيد عن التعقيد والتفلسف اللذين قد ينفران القارئ.

صدمة مفجعة

يستكمل يالوم؛ الذي يعدُّ واحدا من أهم وأبرز أساتذة علم النفس والتحليل النفسي في الجامعات الأميركية التي يحتلّ فيها مكانة مهمة ومرموقة، اشتغاله على الرواية الفلسفية، والتحليل النفسي، وهذه المرة من خلال شخصية الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الذي كان مشهورا بالسوداوية، وكان قد كتب عن الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في روايته “عندما بكى نيتشه”.

يستهل يالوم بالتعريف بأفكار جوليوس الذي يصفه بأنه كان يعرف مواعظ الموت والحياة كما يعرفها أي شخص آخر،

إرفين د. يالوم يواصل اشتغاله على الرواية الفلسفية والتحليل النفسي من خلال شخصية الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور

ويتفق مع الرواقيين الذين يقولون “ما إن نولد حتى نبدأ نموت”، ومع الأبيقوريين الذين يقولون “حيث أكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا أكون أنا، فلِمَ الخوف من الموت إذن؟”، وذلك لأنه طبيب ومعالج نفساني، كثيرا ما دمدم بالجمل التي تعد بمثابة سلوى يهمس بها في آذان المحتضرين.

يصور كيف أن القلق أصاب جوليوس بعد مراجعته لطبيب آخر كان صديقه، وذلك بعد أن أخبره بأن هناك منطقة مصبوغة بشكل مختلف وحدودها ليست حادة على جلد ظهره، أدرك أن هذه الجملة مثيرة للقلق حين يقولها طبيب لآخر، وإنها تعني إمكانية الإصابة بسرطان الجلد، وعندما يفكر فيها، يتمكن من تمييزها، وفي تلك اللحظة يدرك أن حياته الهانئة انتهت وظهر الموت، عدوّه الخفي، في حقيقته السيئة، وأنه جاء ليبقى، ولن يغادر جسده أبدا، وأن الأهوال التي تعقب ذلك ليست إلا إضافات متوقعة.

يحضر جلسات الدعم النفسي مع مجموعة من زملائه من الأطباء النفسانيين الذين يخبرونه بضرورة البوح بما يعترك في داخله، وهو الذي حاول استجماع شجاعته وقراءة الأدبيات المتعلقة بسرطان الجلد في مكتبة كلية الطب، لكن محاولاته باءت بالفشل، وازدادت الأمور تعقيدا، لأنه حين فهم حقيقة طبيعة مرضه الفظيع، بدأ يعتبر سرطان الجلد مخلوقا مفترسا نهما يغرس في أعماق لحمه أعشابا لولبية سوداء.

يحلل يالوم حالة بطله النفسية، وأنه أدرك فجأة أنه لم يعد شكلا من أشكال الحياة الأسمى، وإنما أصبح مضيفا، طعاما، غذاء لكائن حي أقوى يقسم خلاياه ويلتهمها بسرعة مدهشة، كائن حي يهاجم بسرعة خاطفة، ويضم البروتوبلازما المجاورة، ويجهز عناقيد من الخلايا حتى تجري في مجرى الدم، وتستعمر أعضاء الجسد البعيدة، يشير إلى أنها ربما تكون أرضيات هشة حلوة يتغذى عليها من كبده أو من مروج رئتيه المعشوشبة الإسفنجية.

يصف أنه بعد أن أضحى الموت قريبا منه، لاحظ أن حماسته قد خفتت كثيرا، وقد تكون مجرد طقوس مفروضة يكرهها، وقد تكون هناك كلمة طيبة جيدة لممارسة طقوس مبدعة شخصية صغيرة، وأنه كان قد تأثر بالصحف عندما وصفت رجال الإطفاء في منطقة بنيويورك، بأنهم كانوا يقفون ويرفعون قبعاتهم لتكريم الموتى كلما اكتشفوا رفاتا جديدة، ويرى أنه لا ضير في تكريم الموتى، وأن ذلك عبارة عن تكريم الحياة التي عاشها الميت.

عزلة الفيلسوف

الطفولة مكمن الأسرار (لوحة للفنان إلياس إيزولي)

ينتقل البطل إلى وصف حالته بعد استيعابه الصدمة، وأنه عندما هدأ وخفتت نوبات الذعر التي اعترته، وبدأت أفكاره تتجه نحو المستقبل، تخيل كيف يمكن له أن يمضي السنة الجديدة، وأن هناك شيئا واحدا عزم عليه، وهو ألا يحوّل تلك السنة الجيدة إلى سنة سيئة بالحزن، وأنها ليست أكثر من سنة.

يقرر التواصل مع فيليب ستلايت الذي غدا معالجا بدوره، بعد مراجعته لكثير من ملفات مرضاه الذين عالجهم عبر سنين، وحين تحدث معه واتفق معه على موعد قريب، لم يعد الموت يشغل باله، لأن الألغاز التي اكتنفت صورة فيليب بتلك السهولة والوضوح المخيف، وتساؤله عن أين كان يقبع وجه فيليب واسمه وقصته طوال تلك السنين، ويصعب عليه التركيز على الحقيقة بأن تجربته مع فيليب برمتها تقبع في مكان ما في قشرة دماغه من الناحية العصبية الكيميائية. وما زاد في حيرته هو لغز سبب اختياره استعادة فيليب، من بين جميع مرضاه السابقين، ما الذي جعله يختار فيليب لينبشه من مخزن الذاكرة العميق، وهل لأن علاجه فشل فشلا ذريعا؟ ويقر لنفسه أنه لا بد أن هناك أشياء أكثر من ذلك بكثير.

الرواية تقدم الفلسفة وعلم النفس والتحليل النفسي بأسلوب لافت بعيد عن التعقيد والتفلسف اللذين قد ينفران القارئ

يخبره فيليب أنه بعد أن يئس من المعالجين النفسانيين الذين فشلوا في معالجته، قرر أن يعالج نفسه بنفسه، بدأ بالقراءة، استوعب أفكار أكثر الرجال حكمة ممن عاشوا على مدى التاريخ، قرأ كتب الفلسفة كلها بانتظام، بدءا من الإغريق قبل سقراط وحتى بوبر وبولز وكوين، وبعد سنة من الدراسة لم تتحسن شهوته القهرية، لكنه توصل إلى بعض القرارات المهمة، وهي أنه يسير على المسار الصحيح، وأن الفلسفة هي مقصده ومستقره، ويصارحه أنه حين بدأ بدراسة الفلسفة وتحضير رسالة الدكتوراه، تعرف على معالجه الخاص وهو آرثر شوبنهاور.

وحينذاك يبدأ جوليوس بتتبع حياة شوبنهاور وآثاره وأعماله وفلسفته، وذلك بعد أن خرج مذهولا من مكتب فيليب. يقتفي أثر شوبنهاور وتاريخ أسرته، وأن طفولته المحرومة من الحب أدت إلى عواقب مهمة على مستقبله، وأن الأطفال المحرومين من رابطة الحب الأمومي لا يتمكنون من تعزيز الثقة الأساسية اللازمة لحب أنفسهم، والإيمان بأن الآخرين سيحبونهم، أو بأن الحب موجود، وعندما يكبرون يصبحون أشخاصا مجافين، وينعزلون ويتقوقعون على أنفسهم، وغالبا ما يعيشون في علاقة معادية مع الآخرين، ويرى أن هذا المشهد النفسي هو الذي رسم آراء شوبنهاور عن العالم في نهاية المطاف.

ينوه إلى أنه كانت لدى شوبنهاور طريقة أخرى لطرد قلق الموت، وأن القلق من الموت يكون في أدنى حدوده عندما يبلغ الإدراك الذاتي في أقصى حد له، وإذا بدا موقفه القائم على الوحدانية الشاملة الهزيلة بالنسبة إلى البعض، وأنه إذا كان هناك القليل من الشك حول قوة هذا الدفاع الأخير، وأن الشعور بالإنجاز عند إكمال حياة المرء، كما قال نيتشه، يقلل من قلق الموت.

ويذكر أنه عندما نشر شوبنهاور كتابه الأخير “الملاحق والمغفلات” قال “أنا سعيد جدا لأنني أرى ولادة طفلي الأخير، أشعر وكأن حملا ثقيلا حملته منذ سنواتي الأربع والعشرين قد زال عن كتفي”. لا يستطيع أحد أن يتخيل ماذا يعني ذلك. وترك شوبنهاور تعليمات واضحة قبل موته بعشر سنوات، بألا يدفن جثمانه على الفور، وإنما يترك في مستودع لحفظ الجثث لمدة لا تقل عن خمسة أيام حتى يبدأ جسده في التفسخ، ويخمن أنها قد تكون بادرة نهائية لبعض البشرية أو بسبب الخوف من أن يكون فاقدا للوعي أو من حياة معلقة. ودفن شوبنهاور منعزلا وغطي قبره بلوحة ثقيلة من الصوات البلجيكي، وطلب في وصيته ألا يظهر على شاهدة قبره إلا اسمه. ويلفت إلى أنه أراد أن يتكلم عمله عنه.

 

  • كاتب سوري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي