شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

احتياطي الشخصيّ من البراءة

2023-03-29

نبيل منصر

ما من شكٍّ، في أنّ الكتابة دُربة طويلة على البناء ومراودة التخييل والخلق في كل أجناس الأدب. دُربة لا تقتضي فحسب تطويعَ القواعد الفنية (وكسرها في مرحلة معينة) لمصلحة تجريب ذاتيّ وإرادة قول وحلم شخصيّة، بل أيضاً تربية روحية، تستطيب الصبر والعزلات الطويلة في قلب العالم، لشحذ الحواس واختبار مختلف الطعوم الوجودية الحرّيفة.

هذه التربية التي تستعيد الذات من سياق عامّ، إلى سياق شخصيّ يثابر على بناء فرادة مسار في العيش والقراءة والتجربة، هي التي تفتح فجوات في الخطاب العام، عبرها ينبثق ضوء فرديّ ضروريّ لتشكّل شخصية الكتابة وعُصابها. عزلةٌ ومثابرة في قلب الكتابة وقلب العالم، هما العلامة المتوهجة التي تستمد ضوءها الخافت من مكان مجهول، لتكشف عن خطوتنا وقامتنا وظلالنا وضلالنا وبيتنا الذي فيه نعيش أو إليه نهفو.

دُربة الكتابة هي التي تضع حصان الموهبة أمام العربة. نحن نسوس ذلك الحصان بأيدينا، نتعهّده بتربية طويلة الأمد، لكن في لحظة معينة، نأخذ مكان الحوذيّ في العربة، لنترك الحصان يقودنا إلى ما يرغب فيه من مسالك ومدن وحارات. يستمتع الحصان، ونستمتع من خلال إيقاع وقع قوائمه متجاوبةً مع إيقاع الطقس وحركة الناس والحياة والأشياء من حوله.

وبقدر ما يقودنا الحصان، بقدر ما نستمتع بعمل الجائل، الذي تغمره حركة الحياة وهديرها المتدفق من كل مكان، فتتلوّن حساسيته وتشفّ أكثر بما تختزنه من أصوات وإيقاعات ونسوغ وثراءات إنسانية بالغة التنوع والعمق. ثمّة دفق من الهبات، تضعنا تلك الجولات في موقع اليد المفتوحة على تلقيه (تحويله إلى كتابة)، عبر كرم حواسّنا الخمس، التي تتدرب طويلاً على متعة تبادل المواقع والتأثير.

أن نرعى عزلتنا في قلب العالم، فليس في ذلك أيّ مظهر من مظاهر التناقض. بهذا المعنى، يتحصن الجائل فينا بقوقعته، وهو في قلب العالم، بما يصون ويثمر طاقته العضوية والرمزية لمصلحة المخيّلة والإبداع. الظفر بهذه العزلة الخلّاقة في قلب العالم، هو السبيل لتربية روحية طويلة الأمد، تتغذى على نسوغ الأشياء والتجارب في الفن والكتابة والحياة. لكنّ هذه التربية على قدر صرامتها، يفترض فيها أن تقوم على احتياطيّ شخصيّ هائل من البراءة.

الحرية ابنة هذه البراءة المنشودة، التي تتجه بوعي نحو أن تكون براءة مخيّلة وإحساس. أن ينفلت، ما هو بِكْر وقبليّ وسابق وبدائيّ وهشّ وطفوليّ في نظرتنا وحساسيّتنا تجاه الكلمات والأشياء، من خطاطة التربية وطروس قوانينها، ذلك هو الرّهان الذي يمرّ من مكابدة شخصيّة هائلة، تتجه نحو الكتابة بتداعيات العالم، بدل الارتهان الطويل لذاكرته.

لا تنفصل أحياز العالم عن الفن. فجزءٌ ثمين منه يقترن وجودُه وامتداده بالبناء الرمزي وظلاله، التي نفيء إليها من لظى وعبث الهنيهات الوجوديّة الصعبة. ليس ذلك فحسب، فنحن نسعى عبر الفن والكتابة نحو مضاعفة المرايا، التي يقرأ فيها العالمُ التعددَ اللانهائيّ لوجوهه، حتى لكأنه في صيرورة خلق مستمر.

هذا الفيض المستمد من قانون الفن والكتابة، هو ما يجعل من قوانينهما الداخلية محطّ مساءلة وتحطيم مستمرّين، لحفز التجديد وبثّ أنفاس منعشة في براءة المخيّلة. هذه المخيّلة هي ابنة التّماس مع العالم ومشكلات الوجود، بوفرة طاقة داخليّة عجيبة، تبتدع قوانينَها الخاصة، دون أن تُلزِم بها شكلاً لا يتحررُ إلا ليرزأَ تحت قيود أخرى. لعلّه نوع من "الحريّة الحرّة" (رامبو)، التي تجعل براءة المخيّلة استحقاقاً لا يُستنفَد في فعل قائم، ناجز ونهائيّ.

ليست البراءة فعلاً منتهياً، بل يبدع باستمرار. في كل فعل إبداعي جديد، يبدع هذا الاحتياطيّ الشخصيّ من البراءة. هو شخصيّ لأنه ينبع من الدّاخل العميق، من تلك الطّفولات المنسيّة، وتلك الفراديس الأولى التي لم تسمع في أرجائها بعد لغة الأمر والنّهي. بل لعلّها براءة ما قبل اللّغة نفسها، التي تجعل الإنسان يتجرّأ (بكلّ براءة) على فعل التّسمية.

إن اللّغة، هذه النّعمة الخطيرة، في حالة هذه البراءة، تولد في أعماقنا، ولا تُملى علينا من الخارج. تولد لتظفرَ بعالمها المستحقّ خلال ولادتها المتجدّدة. ثمّة جدلٌ سعيد بين ولادة هذه اللغة والعالم: نظرةٌ مرحة لأعقد المشكلات الكيانية. مرحة لكنّها غير مستخفّة، والمأساويُّ فيها غيرُ مفصول عن الرقص والموسيقى واللّعب والمتعة والوثبة المخاطرة الفعّالة.

في هذا التجريد شيء من متعة الفكر، لكن ربّما ليس فيه شيءٌ من البراءة. هل التنظير، مهما كان مجدِّداً وملهِماً، مدانٌ سلفاً بعكر الفكر وافتقاد البراءة؟ ألا يمكن أن يكون الفلاسفة شعراء وموسيقيّين وتراجيديّين في مجال تفكيرهم الخاص؟ ألا يمكن أن يَخرُج النقدُ نفسُه من خطاطاته النظرية الصارمة، إلى مجال الإبداع دون أن يفقد "هويّته" وطموحاته وأشواقه؟ أسئلة، تتدرّج لتخرج من تجهّم النّظرة العاجزة المحافظة، إلى مرح المحتمل الكتابيّ الذي يتشكّل حتى في قلب العلم، ليعلن عن براءةِ مخيلةٍ تعيد تجديد العالم باستمرار.

شاعر وناقد من المغرب







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي