مروة صلاح متولي
خلال عشر دقائق فقط هي المدة الزمنية التي يستغرقها عزف السيرينادا الحزينة Sérénade mélancolique تظهر سمات المذهب الرومانتيكي بشكل مكثف، في هذه القطعة الموسيقية، التي ألفها تشايكوفسكي عام 1875، ومن هذه السمات الظاهرة، الفردية والذاتية الخالصة، والتعبير عن النفس، فهي لا تصف المناظر الطبيعية على سبيل المثال، أو الانتصارات الحربية، ولا تعبر عن بهجة الجموع وحزنها، أو تنقل الإحساس بجبروت القدر، ولحظات الرعب في مواجهته، والانسحاق تحت سطوته، لكنها موسيقى تصف الأحاسيس والانفعالات واضطرابات الشعور، وكل ما يدور في العالم الداخلي للفرد، ويمكن القول إن النزعة الرومانتيكية حزينة دائماً لسبب ما، سواء كان معروفاً واضحاً، أو مجهولاً غامضاً، وللفنان أن يفصح عنه أو يخفيه، بالمقدار الذي يريده ويقرره هو، كما أنها تبتعد عن العقلانية والموضوعية، وتميل إلى المبالغة، ولا تفرض الرومانتيكية هذه المبالغة في الشعور والتأثر، وتدفع نحو التصنع في سبيل ذلك، وإنما تأتي وتتخلق تلقائياً من الشعور المبالغ فيه بالفعل، وحدة التأثر الحقيقي الصادق.
لا وجود للأوركسترا الضخمة الكاملة في السيرينادا الحزينة، فقد اعتمد تشايكوفسكي على بعض الآلات الوترية والهوائية الخشبية والنحاسية، واستغنى عن الآلات الإيقاعية تماماً، ولا يعني ذلك اختفاء الإيقاع، الذي تم تحقيقه عن طريق آلات أخرى بأساليب مغايرة في لحظات قليلة، وبما أن هذه القطعة الموسيقية مفعمة بالروح الرومانتيكية، كان لا بد من وجود الفرد المنعزل عن الآخرين، وإن تواصل معهم، هذا الفرد الحزين، أو هذه الروح المتألمة هي الكمان، حيث تقوم هذه الآلة الموسيقية بلعب دور البطولة، كمان واحدة فقط، لا مجموعة الكمان، وعادة ما يقف العازف المنفرد ممسكاً بكمانه في مكان متقدم، أو يجلس متصدراً بقية الآلات، التي تكون في مكانها المعتاد، وفق ترتيب وجود الأوركسترا على خشبة المسرح، تبث آلة الكمان شكواها وتعبر عن آلامها، بما لديها من قدرة عجيبة على ترجمة الشعور، وتمكن من تصوير العاطفة، وتعزف وحدها اللحن الأساسي وثيمته الرئيسية، بينما تكون الآلات الأخرى أشبه بالمستمعين لهذه الشكوى، والمتأثرين بهذه الآلام، ويكون تداخلها وتفاعلها مع آلة الكمان، إما تساؤلاً واستفساراً، أو تعاطفاً ومواساة، أو تعبيراً عن الإنصات والمتابعة، وربما الشعور بالدهشة أيضاً، لكن هذه الآلات الأخرى تبقى بعيدة، على الرغم من كل شيء، فالمأساة ليست مأساتها ولا تخصها، وإنما هي مأساة الكمان وحدها في النهاية، هذا ما يشعر به السامع مهما بلغت درجة تعاطف آلة ما ودقة تعبيرها، أو حتى رددت جملة موسيقية من جمل الكمان، فهي عندئذ ترددها لسبب آخر، لا لأنها تشعر بالألم نفسه الذي تصفه الجملة الموسيقية، وعلى العكس تماماً لا يساور المستمع أدنى شك عندما يكون منصتاً للكمان، في أنها محل الحزن وصاحبة الألم ومنبع الشكوى.
وقد جعل تشايكوفسكي حضور الآلات الأخرى خافتاً إلى حد ما، أو ثانوياً، حتى أقوى الآلات كالبوق الفرنسي الذي يستخدم عادة في لحظات التصعيد الدرامي والذروات الهائلة، يجده المستمع هنا هادئاً كأنه يكاد يهمس أحياناً، وبالإضافة إلى أربع آلات من البوق الفرنسي، ضم تشايكوفسكي إلى الأوركسترا الصغيرة 2 فلوت و2 كلارينيت و2 أوبوا ومجموعات الفيولينة والفيولا والتشيللو والكونترباص، والفلوت هو الذي يفتتح السيرينادا بجملة موسيقية قصيرة جداً، وصوته هو أول الأصوات التي يتم سماعها، ثم يعود في منتصف القطعة ليصاحب الكمان بتدفقات هادئة شبه متقطعة، ونغمات تمنح اللحن أبعاداً أكثر خيالية، وكأنها تجعل الألم يتردد في الآماد البعيدة.
كما يصاحب الكمان والوتريات في الجزء الأول من السيرينادا، ويؤدي نغمة منفردة في نهاية الثيمة، ثم يعود الفلوت في النهاية ليعزف جملة البداية بإيحاء مختلف، ونغمة واحدة خاتمة لدوره، وتعزف آلة الأوبوا نغمة خفيفة في البداية مع الكلارينيت والوتريات، وليس لها حضور بارز بشكل عام، بينما يكون الحضور الأكبر من نصيب الوتريات التي تعد الأكثر عدداً، وتتنوع وظائفها وما تؤديه من أدوار، ويسمع صوتها منذ البداية قبل انفراد الكمان، ويكون العزف بالأقواس على الأوتار، وعندما تبدأ الكمان في ترديد لحنها الخاص، تُرفع الأقواس من فوق الأوتار وتتوقف، ويقوم عازف التشيللو والكونترباص بالعزف عن طريق تكنيك آخر، هو النبر بالأصابع على الأوتار مباشرة، وقد وظف تشايكوفسكي هذا التكنيك من أجل خلق الإيقاع، وجعل جميع الوتريات تطبقه ما عدا الكمان المنفردة بالطبع. فتقوم مجتمعة بخلق إيقاع يصاحب الكمان أحياناً، وفي أحيان أخرى يقوم ثنائي الكونترباص بتقديم إيقاع من خلال نبر العازفين بالأصابع على الأوتار على هذا النحو: 1.2 1.2 ثم يتحول ثنائي الكونترباص نفسه إلى إيقاع مختلف يسير كالتالي 1.1 1.1 وهكذا.
وبعيداً عن الإيقاع تقوم الوتريات كلها بمجموعات الفيولينة والفيولا والتشيللو والكونترباص بمصاحبة الكمان المنفردة بشكل هادئ، لا يطغى على صوتها، فيظل بارزاً ولا يضيع وسط الأصوات الأخرى، أما الكلارينيت فيبدو كالمستمع الأكثر حكمة ورزانة وتجاوباً عميقاً مع الكمان، وهو يعقب الفلوت بجملة قصيرة أيضاً في بداية السيرينادا، ثم يتدخل أحياناً قبل تصاعد صوت الكمان، وكأنه يدفعها نحو هذا التصاعد، كما يصاحب جميع الآلات أيضاً في بعض اللحظات، ويكون مشاركاً في جزء من أجمل أجزاء هذه القطعة الموسيقية، وبعدها ينهي دوره بعزف جملة من الثيمة الرئيسية قبل أن تعزف الكمان آخر نغماتها ويسود الصمت.
وفي قالب موسيقي لم يستخدمه تشايكوفسكي كثيراً، هو السيرينادا، وأول ما ألفه للكمان المنفرد في هذه القطعة الموسيقية، تتعدد أصوات الكمان وتقنيات العزف عليها، وربما لا يكون للسامع بهذه التقنيات معرفة أو اهتمام، لكنه ينصرف إلى جمال ما يسمعه من تغير الصوت وإحساسه، ودلالاته وانطباعاته التي يخلقها في النفس، واختلاف مستويات الصوت التي تتغير من صوت رئيسي عادي معتدل، إلى صوت أضعف وأكثر حساسية، عندما يتم التعمق في اللحن، إلى الصوت الأكثر حدة في لحظات التصاعد النفسي، إلى الحزن العميق في لحظات الانفراد التام التي تتخللها لحظة صمت قد تكون ثانية واحدة أو أقل من ثانية، وقد توحي هذه التغيرات الصوتية وتبدل أحوال الكمان بأنها تقول: أنا لست بخير، أنا حزينة، حزينة جداً، أنا أتألم، أتألم بشدة، أكاد أموت من الحزن والألم. وقبل كل ذلك تبدأ السيرينادا بسؤال من الفلوت كأنه يقول: ما بك؟ ماذا هناك؟ وتبدأ الكمان في الرد عليه من خلال عزف الثيمة الرئيسية، المكونة من جملة موسيقية تتكرر لأربع مرات بصور مختلفة، تتطور دائماً نحو الأجمل والأعذب والأشد تعبيراً عن الحزن، ثم تذهب نحو المزيد من الحكي والبوح، لتعود مرة أخرى إلى الثيمة الرئيسية بصوت أكثر حدة، ما يمهد للتصاعد النفسي فتزداد الحدة والسرعة والاهتزازات المتلاحقة، حيث يكثر استخدام تكنيك الفيبراتو في الجزء الأخير، وتكون جملة النهاية بطيئة جداً، تعزفها الكمان منفردة بنغمة تمتد وتتوقف حتى تنتهي تماماً.
ومن اللحظات الأكثر جمالاً في هذه القطعة الموسيقية البديعة فنياً، تلك اللحظة التي يقوم فيها الكلارينيت منفرداً بعزف الثيمة الرئيسية لمرة واحدة، بينما تستمع إليه الكمان هذه المرة وتقوم هي بالرد عليه، فكأن الكلارينيت يقول لها في النهاية، الآن أشعر بك وأعرف آلامك، أنت تعانين من كذا وكذا، وتتألمين بسبب كذا وكذا، وتكاد الكمان تبكي وتتأوه وهي تقول له نعم نعم، وعلى الرغم من قصر هذه القطعة الموسيقية زمنياً وتفردها بين أعمال تشايكوفسكي، إلا إنها تعد نموذجاً واضحاً ومختصراً من نماذج الاتجاه الرومانتيكي، ودليلاً أبدياً على رهافة حس هذا الموسيقي الرقيق، وتعمقه داخل القلب الإنساني، وصدق تعبيره عن أنات الروح.
*كاتبة مصرية