شعرقص.حواركتاب الأمةأدب عالمينقدفكراصدارات جديدةاخبار ثقافيةتراثفضاءات

محسن مهدي وفلسفة الفارابي التأسيسية

متابعات الأمة برس
2021-04-21

لم يكن أمر ممارسة الفلسفة سهلاً بين علوم كانت راسخةً وعتيدةً أبان العهود الأولى من عمر الحضارة العربية الإسلامية، فعدت أول الأمر فرعاً من فروع علم البلاغة، ومورست تحت مسمى (علم الكلام) وسُمي المشتغلون بها متكلمين أي أصحاب الصنعة الكلامية في بحثهم في القرآن وتدليلهم على إعجازه. وأول فرقة للمتكلمين كانت فرقة المعتزلة، واهتمت بتفسير فن القول. ومن متكلميها البلاغيين واصل بن عطاء، وسهل بن هارون، وعمرو بن عبيد والجاحظ، الذي كان ذا نزعة عقلية وطابع جدالي يقوم على الاستدلال بالمنطق والقياس. ولم تأخذ الفلسفة اسمها كفرع معرفي مستقل عن علوم اللغة، إلا على يد أبي نصر الفارابي الفيلسوف المولود عام 259 أو 260هـ ـ 870 م والمتوفى عام 339 هـ ـ 950م الذي أتقن النحو وجادل النحاة واللغويين عقلياً، حتى أثبت لهم مقدرته كفيلسوف مؤسس ضليع في التراث الفلسفي الإغريقي والتراث اللاهوتي الأفلاطوني المحدث حتى لقب بالمعلم الثاني.

وبسبب شهرته في الفلسفة وبراعته في فهم أرسطو في كتابيه فن الشعر والخطابة، ولدراسته على أيدي المتصوفة في بغداد، وانخراطه في الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، متأثرا ببعض النسطوريين من مدرستي أثينا والإسكندرية، أظهر بعض النحاة والبلاغيين له ولغيره العداء، ومنهم ابن الأثير الذي ثار على أساليب الفلاسفة، ورأى في الفارابي وابن سينا ـ ومن شابههما ـ رجالا أضلهم أرسطو وأفلاطون.

أما الفقهاء فكانوا يشجعون علم الكلام الذي كان له مكان مهم، لكنه ملحق وسط علوم الدين الإسلامية، ومنها علم الفقه فكانوا يقومون برعاية علم الكلام، عندما يحتاجون إليه، لكنهم كانوا يراقبونه مراقبة شديدة، ويعملون على قمعه كلما بدا في ذلك زرع للشك في أذهان المؤمنين، وإغراق لهم في جدل عقيم أو تحويل لهم عن واجباتهم الشرعية، إلى أن استطاع الفارابي بعقلانيته الجدلية، من جلب الاهتمام إلى ملل الوحي، متعاملاً معها كفلسفة لا تضاد الدين، بل هي أفضل طريقة للحياة، وهي السبيل الذي عبره يستطيع الإنسان بلوغ المعرفة الأكمل. وعلى الرغم من تلك المواجهة، فإن الفارابي واصل عمله الفلسفي والمنطقي، بدلالات ومسائل لها صلة بالفلسفة الأفلاطونية، مبتكراً علوماً جديدةً منها علم إحصاء العلوم، وعلم السياسة المدنية، فاتحا الباب للفلاسفة من بعده، كابن سينا وابن رشد وابن طفيل وابن ماجة وابن ميمون، فضلا عن الغزالي وابن خلدون، مؤثرا في علماء البلاغة العربية في القرن السادس للهجرة مثل، القزويني والسكاكي والرازي والسبكي والتفتازاني وغيرهم. ووصل تأثير أبي نصر الفارابي إلى فلاسفة العصور الوسطى في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، لكن عوامل كثيرة جعلت إرثه الفلسفي منسيا، فلم يترجم منه إلا القليل في أواخر القرن التاسع عشر.

وعلى الرغم من أهمية التراث الفكري الذي خلفه الفارابي؛ فإن بعض المفكرين الغربيين المهتمين بالفلسفة الشرقية، لا يشيرون إليه سوى من بعيد، وقد لا يشيرون إليه أصلا. والسبب أن الغربيين ينظرون إلى الفلاسفة المسلمين عامة، ناقلين للإرث اليوناني حسب، وأن فضلهم كان محدداً في إيصال هذا الإرث إلى عصر النهضة، لتقوم أوروبا بإحيائه من جديد، وكأن الفلاسفة المسلمين لم يضيفوا لهذا الإرث جديداً، ولم يكونوا مبتكرين ومطورين. ولعل وراء هذا التصور نزعة استشراقية، تجعل الفلاسفة الغربيين ينظرون باستعلائية إلى الفيلسوف الآتي من الشرق، ويصفونه بالشيخ الحكيم، ويعدون فلسفته حكمة، فلا هو يتأمل الظواهر والبواطن ولا هو يبتكر المفاهيم والاصطلاحات.

من يقرأ الفلسفة الإسلامية فسيجد أن ابتداع المفاهيم هو مطلبها، ولذلك ابتدع الفارابي ألفاظ (الأجناس والمحمول والماهية) في مقابل ألفاظ (التيموس والنوس أو النوع) عند أفلاطون، و(الكاثريسس والجوهر) عند أرسطو.

بيد أن من يقرأ الفلسفة الإسلامية فسيجد أن ابتداع المفاهيم هو مطلبها، ولذلك ابتدع الفارابي ألفاظ (الأجناس والمحمول والماهية) في مقابل ألفاظ

(التيموس والنوس أو النوع) عند أفلاطون، و(الكاثريسس والجوهر) عند أرسطو. وهو ما لم يقم به الفلاسفة الغربيون أنفسهم، ممن درسوا أفلاطون وتأثروا به، بل إن بول ريكور في كتابه (فلسفة الإرادة الإنسان الخطاء) لم يضع مفاهيم كالتي وضعها الفارابي، وهو الذي أهتم كثيراً بـ(الجمهورية) ووقف مليا عند المدينة الفاضلة، وانشغل بالنفس الإنسانية كحقل قوى يتعرض للتجاذب المزدوج من العقل والمجاز والمماثلة والرمزية والمثال. ومنذ مطلع القرن العشرين وإلى اليوم تحظى أعمال الفارابي بالاهتمام، فكُتبت فيه الدراسات والأبحاث وصيغت حوله منهجيات وطروحات سوسيولوجية وأنثربولوجية وسياسية، ووضعت فيه نظريات بعضها أدبي فكري، وبعضها الآخر نفسي واجتماعي وثقافي.

وإذا كان العلامة إبراهيم مدكور، قد اهتم بفلسفة الفارابي منذ عام 1934 واهتم الباحث المستشرق ليو شتراوس بتأثر الفارابي بفلسفة أفلاطون، فإن ما قام به المفكر العراقي محسن مهدي، يظل هو الأهم، من ناحية التعريف العلمي بفكر الفارابي الفلسفي، ومن ناحية ما قام بتحقيقه من رسائل الفارابي ومصنفاته التي كانت طي النسيان والإهمال، فأخرجها إلى النور، ليضيف إلى مكتبة الفلسفة العربية والعالمية، إضافات مهمة تعطي صورة مقربة للفارابي، موجهاً اهتمام الدارسين إلى هذا ا لفيلسوف الشرقي المسلم والمؤسس المعلم.

ولعل أهم تلك الرسائل والمصنفات وأكثرها شهرة كتاب «الجمع بين رأيي الحكيمين» و»آراء أهل المدينة الفاضلة» و»السياسة المدنية» التي فيها يتجلى مجمل العمل الفلسفي عند الفارابي. وقد تمتع محسن مهدي بميزات الباحث الأصيل، وأهمها الأناة والدقة والصبر، متمكنا بذلك من القيام بهذا العمل المضني، بحثا وتحقيقا، جامعا تخصصه في علم الاجتماع بمعرفته المعمقة بالتراث الفلسفي الإغريقي والإسلامي، مع توظيف قدراته الذاتية وموهبته الأدبية التي منحته أسلوبا علميا خاصا، استطاع به أن يتحرر من التقييد الأكاديمي، وفي الوقت نفسه يعزز البعد العلمي في أبحاثه ودراساته. وعلى الرغم من أن أول عمل بحثي لمحسن مهدي كانت أطروحته للدكتوراه والموسومة «فلسفة التاريخ عند ابن خلدون» التي بها تخصص في علم الاجتماع، بيد أن ذلك كان أيضا بداية المشوار في دراسة الفلسفة الإسلامية القروسطية عامة وفلسفة الفارابي خاصة. أما لماذا تخصص الدكتور محسن مهدي في فلسفة الفارابي فللأسباب الآتية:

ـ إن الفارابي هو أول فيلسوف أعلى أرث مدرسة الإسكندرية في الإسلام متمتعاً بمرتبة أرسطو نفسه كمعلم ثان، لم يكن مجرد مترجم ومؤرخ وناقل للتراث الفلسفي، وإنما كان فيلسوفا فاض على الإرث الفلسفي الأفلاطوني والأرسطي بالكثير من فهمه، فكانت له فلسفته التي عبرت عنها مصنفاته، مرشدا من سيأتي بعده إلى الكيفية التي بها تفهم الأدبيات الأفلاطونية المحدثة باستعمال المنطق والعلم المدني أي العلم المهتم بالمدنية.

ـ إن الفلسفة الغربية لم تول المعلم الثاني الأهمية التي تناسبه، بل تأثرت بدلا من ذلك بتلميذه ابن سينان الذي كان شديد التأثر بأفكار الفارابي وطرائقه في ملاحظة الجواهر والأعراض وتشخيص الظواهر والسلوكيات. ولعل تفرد الفارابي بفلسفة خاصة في مقاربة الشريعة الإلهية بالفلسفة الإسلامية جعل مصنفاته مصدر حيرة وتضليل للباحثين ولذلك آثروا ابن سينا عليه.

ـ ما ساد من افتراض أن مصنف الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة» هو صيغة أخرى منقولة من مدينة أفلاطون.

ـ ما تميز به إرث الفارابي الفلسفي من تنوع علمي يجمع بين الفقه والكلام والفلسفة العملية والمدنية والعلوم النظرية والعلم الطبيعي والإلهيات وعلوم أخرى استحدثها وتفرد فيها.

ـ اقتناع محسن مهدي أن التباين بين السياسة الأفلاطونية، وملل الوحي أمر قائم لكن هناك أوجه تشابه قائمة أيضا.

ـ اهتمام محسن مهدي بالفلسفة المدنية وفلسفة الملة التي استعملها الفارابي للدلالة على الدين.

ـ ما انطوت عليه نصوص الفارابي من طابع فلسفي يتسم بالعمق باستثناء القليل من نصوصه التي اتسمت بالبساطة.

ـ تفرد الفارابي في أفكاره الفلسفية حول العلاقة الجدلية المعقدة بين العلم والمدنية، كمعضلة ناقشها متفحصا جذور آراء أهل المدينة الفاضلة والسياسة المدنية، والملل الجاهلة والضالة، وتساءل من هو الإنسان؟ وما هي المدنية؟

ـ اجتراح الفارابي لعلم جديد لم يعرف قبله هو علم إحصاء العلوم، وتنظيره للفلسفة المدنية في سياق مماثل لسياق الجمهورية والطيماوس والنواميس لأفلاطون وأيضا هو سياق متوافق مع مستلزمات الشريعة الإلهية.

ـ إن الفارابي فيلسوف خدم الفلسفة الإسلامية من خلال إدراكه (النزاع الكبير بين السعي وراء الخلاص الفردي والسعي وراء الخلاص العام غير أنه كان الفيلسوف المسلم الوحيد الذي اختار أن يستكشف هذا النزاع).

ـ الفلاسفة الذين آتوا من بعد الفارابي لم يتوافق احترامهم له ولا تقدير إنجازه مع التفهم لدوره كفيلسوف أسس الفلسفة الإسلامية.

هذه الأسباب مجتمعة وغيرها هي التي وجهت جهود المفكر محسن مهدي العلمية نحو الفارابي، ليتخصص في فلسفته بعد أن تخصص في الفيلسوف ابن خلدون. وهذا جزء من مآثره الكثيرة في علم الاجتماع في العراق والعالم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي