الروائي والمدينة: كيف صنعت البصرة عالماً جديداً لإسماعيل فهد إسماعيل؟

2025-11-11 | منذ 2 ساعة


جميل الشبيبي*


من أبرز الوجوه الأدبية التي ارتبطت بها بصداقة عميقة في مدينة البصرة: الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، كان ذلك بداية عام 1965، وكان وقتها قد أصدر مجموعته الأولى «البقعة الداكنة» على حسابه الشخصي. كان معلماً منسباً لتدريس الرسم في إحدى المدارس المتوسطة في البصرة، وعلى الرغم من أن هذا الروائي لم يكن معروفاً بين وسطنا الأدبي في البصرة، إلا أنه بعد فترة قصيرة من تعرفه على أصدقائي أصبح قطباً لذلك التجمع الأدبي، الذي بدا يتسع تدريجياً ليضم أسماء شعراء وقصاصين ونقاد تفتحت مواهبهم بعد فترة من تعارفنا، من أبرزهم الشاعر عبد الكريم كاصد والشاعر محمد طالب محمد والروائي عبد الجليل المياح والكاتب جاسم العايف والقاص والكاتب خليل المياح، والشاعر يوسف السالم، والمثقف البصري محسن براك والكاتب والصحافي الكويتي غازي عبد العزيز الجاسم والخطاط والناقد البحريني أحمد المناعي الذي كان يدرس في كلية الآداب في البصرة في ذلك الوقت، ومجموعة أخرى من مثقفي مدينة البصرة الذين كانوا في بداياتهم الأولى، إضافة إلى صديقيه الأثيرين اللذين تعرفنا عليهما من خلاله، الشاعر مصطفى عبد الله والكاتب جعفر موسى علي، الذي كان صديقا شخصيا له وكان قارئا لكل أعماله.
كان إسماعيل فهد إسماعيل شخصية تمتلك سمات أديب قادر على إدارة التجمعات الأدبية وتطويرها من خلال ما يمتلكه من مكتبة كبيرة تضم الكثير من النتاجات الأدبية والفلسفية والفكرية، أهمها كتب كتاب الأدب الوجودي: كامو وسارتر وسيمون دو بوفوار وغيرهم.. كما أنه كان يمتلك شخصية مرنة تستمع إلى أصوات الآخرين وتقرأ نتاجاتهم وتعلق عليها إضافة إلى خصوصية بيته المؤجر الكبير، الذي كان يقع وسط مدينة البصرة القديمة، ليصبح مكاناً لاجتماعات هذا التجمع الأدبي.
وكان إسماعيل فهد إسماعيل الوحيد من بين هذا التجمع الأدبي قد أصدر مجموعة قصصية «البقعة الداكنة» فلم يكن لمعظمنا أي اثر أدبي منشور في الصحف، أو المجلات العراقية، كنا جميعاً في أشواطنا الأولى، نتلمس طريق الأدب الصعب، ونقف متأملين الأعمال المنشورة، بينما كان إسماعيل فهد إسماعيل قد كتب روايته الأولى «كانت السماء زرقاء» وقدمها مخطوطة لبعضنا (مصطفى عبد الله وجعفر موسى علي وأنا) وكانت تمتلك سمات مرحلة جديدة في كتابة الرواية، لم تكن مألوفة لنا، وكادت آراؤنا أن تجهض هذا العمل الجديد لولا تمسك الروائي إسماعيل بتجربته الجديدة المشيدة على: اكتشاف عالم جديد وشكل ملائم له أنقذ هذه التجربة في لحظاتها الأخيرة حين قال: «لا أستطيع أن أحمل تطلعاتكم في الكتابة.. يكفيني أن أحمل تطلعاتي».! لقد اكتمل مشروع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل التجريبي في كتابة الرواية القصيرة «كانت السماء زرقاء» على أرض مدينة البصرة، وعلى خلفية أحداث واقعية عاش الروائي أجواءها المشاكسة، ثم عززها بكتابة روايتيه القصيرتين «المستنقعات الضوئية» و»الحبل» في الفترة نفسها، وقد صدرتا على التوالي عامي 1971 و1972 إضافة إلى مجموعة قصصية مخطوطة تنتمي للفترة نفسها وللانجاز الشكلي نفسها سماها «الكرة والباص» كتبها عام 1966 وقد صدرت بعد رحيله.
بعد انتقاله إلى الكويت واتخاذها سكنا دائما له، واجهته معضلة من أهم المعضلات الشخصية، هي قضية الهوية الوطنية، التي تجسدت بالسؤال المحير الذي يدور حول (نسبته إلى أيٍّ من البلدين: الكويت أم العراق؟) وهي معضلة شخصية للكاتب وليست عامة، ولكنها أصبحت أحد إشكالات حياة الروائي، حين يواجه الإعلام، علما أن الجميع يعلم أن ولادته وتعليمه وكتاباته الأولى كانت في العراق وأنه عاش 26 عاما في البصرة قبل انتقاله إلى الكويت عام 1966، وهي معضلة واجهها بإجابات تكشف حيرته وهو يعلم أنه تخطى سؤال الهوية المكرر هذا، تجاه عالم الإنسان والتعبير عن همومه بعبارته الشهيرة التي عبرت عن وجهة نظره القائلة: (الفعل الكتابي معضلة إنسانية بالأساس).

والسؤال الأساسي الذي نود مناقشته هنا هو، سؤال تشكل الهوية الثقافية، وتشكل عالمه الأدبي والروائي بشكل خاص ونضجه في مدينة البصرة، عبر قراءة أعماله الأولى التي كتبها في العراق، ثم نشرها بداية سبعينيات القرن العشرين بعد استقراره في الكويت، وسوف نتخذ من رواياته الأولى التي كتبها في البصرة وهي رواية «كانت السماء زرقاء، المستنقعات الضوئية، الحبل، والكرة والباص» ثم الضفاف الأخرى التي كتبها في الكويت براهين على إقامته في هذه المدينة من خلال إيضاح أسماء الأمكنة التي كانت فضاء لأحداث رواياته وهي، (محلات شعبية، وشوارع وأنهار إضافة إلى دوائر حكومية، أو ترفيهية اندثرت الآن وبقيت شاخصة في رواياته مثل: سينما الحمراء الجديدة ودائرة الانضباط العسكري والبريد المركزي في العشار وغيرها)، كما سنشير إلى وجهات نظر أبطاله في العالم المحيط بشخوصهم وقرفهم منه والتمرد عليه، في إشارة إلى تأثرهم بأجواء الستينيات في العراق التي أنتجت الموجة الستينية في القصة والشعر والفنون التشكيلية المعروفة لدى الدارسين للحقب الأدبية في العراق، وأخيرا التأمل في المنحى التجديدي الذي اتضح في كتاباته الأولى، الذي كان نتيجة موهبة استثنائية، وهي تؤسس عالما مأزوما لا يمكن التعبير عنه إلا من خلال كشوفات العالم الداخلي وانحسار عالم الخارج، كما اتضح في روايته الأولى «كانت السماء زرقاء»، إضافة إلى روايتي «الحبل والمستنقعات الضوئية» التي كتبها هذا الروائي في العراق (البصرة تحديدا) ) فهي تؤكد هذا المنحى التجديدي لدى الكاتب الذي ابتكره وهو منحى ينتمي إلى الواقع الأدبي في العراق حصرا، وضمن الأجواء السياسية والفكرية والأدبية في العراق إبان منتصف الستينيات. مما يعني أن تجربة الروائي إسماعيل فهد إسماعيل قد نضجت واكتملت في العراق، حين غادر البصرة تجاه الكويت.

لقد اكتمل مشروع الروائي إسماعيل فهد إسماعيل التجريبي في كتابة الرواية القصيرة ( كانت السماء زرقاء، الحبل، المستنقعات الضوئية) على ارض مدينة البصرة، وعلى خلفية أحداث واقعية عاش الروائي أجواءها المشاكسة، وقد صدرتا على التوالي في الأعوام 1970 و1971 و1972، إضافة إلى مجموعة قصصية مخطوطة تنتمي للفترة نفسها والانجاز الشكلي نفسه اسماها «الكرة والباص» كتبها عام 1966 وقد صدرت بعد رحيله. اما المنحى الثالث في البرهنة على المرحلة العراقية بوصفها الحاضنة الأساسية في اكتمال تجربة الروائي إسماعيل قبل استقراره في الكويت، هي الرسائل الشخصية التي كانت بيني وبين الروائي ابتداء من الأشهر الأولى لإقامته في الكويت، حتى زمن متأخر من سبعينيات القرن العشرين، تناول فيها قضايا شخصية لا تخص القارئ، لكنه أفصح في بعض فقراتها عن إشكالات حياته في الكويت بداية إقامته فيه، وسجل طموحاته المستقبلية وعلق على العديد من الظواهر الأدبية التي عاصرت تجربته في الكويت كعلاقته بالتجمعات الأدبية في الكويت، وما كتبه عنها وغير ذلك مما سنفرد لها حيزا واضحا لتكون هذه المقتبسات من رسائله برهانا آخر على اكتمال تجربته في العراق، وإن هذا الروائي عندما وضع قدمه الأولى على أرض جديدة، كان مدركا لعمق تجربته الإبداعية التي حملها معه من البصرة، في مجتمع جديد ليس فيه تقاليد أدبية راسخة، وإن تجربته التي يحملها في حقائبه لا يمكن أن تفهم في هذا المجتمع، وكان يتطلع إلى لبنان لاحتواء تجربته هذه قائلا في إحدى رسائله (البقعة الداكنة أعدت كتابتها بتعديل قليل على بعض جملها وأضفت لها قصة (إنسانان) التي تحبها أنت، وسأحاول أن أضيف في نهايتها قصة قصيرة أخرى، لأني حاولت أن أحد من المط الموجود في قصصها سابقاً. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى.. ستطبع البقعة وتوزع في الكويت فقط.. ولم لا.. ما دامت الكويت لم تطلع على نسخة منها قبل الآن، علاوة على إني سأحصل على بعض النقد عن هذا الطريق وسأقوم بتثبيت بعض أقدامي. أما كتبي الحبيبة فسأطبعها حتما وحتما في لبنان وإلا فلا. أما أن أطمع بطبعها هنا… وه.. ذلك جنون .. كلمة منها وأنا بره.

الرسالة بتاريخ 10/10/1966 .. (تمهيد لكتاب عن اكتمال التجربة الروائية للروائي إسماعيل فهد إسماعيل في البصرة) .











شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي