

رؤساء سوريا أدمنوا زيارة الكرملين من أيام السوفيات إلى زمن فلاديمير بوتين، ولا رئيس توجه إلى البيت الأبيض، الرئيس حافظ الأسد الذي برع في اللعب بين الجبارين الأميركي والسوفياتي وأتقن التوازن بين العلاقات مع إيران ودول الخليج استقبل الرئيس ريتشارد نيلسون في دمشق، وحرص على الاجتماع مع رؤساء أميركا في جنيف.
وحده الرئيس أحمد الشرع ذهب إلى الكرملين على الطريق إلى البيت الأبيض، بعدما التقى الرئيس دونالد ترمب في الرياض بمسعى من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ثم في الأمم المتحدة، والمفارقة أن واشنطن وموسكو لم تعترف أي منهما رسمياً بالإدارة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد، ولا عينت سفيراً لدى دمشق.
فما الذي يجعل الشرع مطلوباً إلى هذه الدرجة من الكبار؟ ما سر الانفتاح السعودي والقطري والإماراتي عليه؟ وإلى أين يصل الرهان التركي على دوره في دمشق بعد احتضانه في إدلب خلال الصراع مع الرئيس بشار الأسد؟
في البدء يأتي موقع سوريا الجيوسياسي والإستراتيجي المهم بالنسبة إلى الجميع، حتى في إدلب فإن "هيئة تحرير الشام" التي قادها أبو محمد الجولاني كانت مع علاقات انفتاحية مع أوكرانيا التي غزاها الروس، بحيث التقت مصلحة كييف والهيئة ضد بوتين الذي تدخل عسكرياً في سوريا لحماية الأسد ونظامه من السقوط، لكن بوتين الذي ورث علاقات السوفيات العسكرية والاقتصادية والسياسية مع سوريا قادته الواقعية إلى دعوة الشرع للقائه في الكرملين، وتجاوز ما فعله خلال حكم بشار الأسد الذي صار لاجئاً في موسكو، أولاً للحفاظ على قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية، وثانياً لعرض تسليح الجيش السوري، وثالثاً لإكمال المشاريع الاقتصادية والحصول على مشاريع جديدة في مرحلة إعادة الإعمار.
الواقعية أيضاً دعت الشرع إلى طي صفحة روسية سوداء خلال الحرب، وبدء صفحة جديدة وتدشين سياسة الانفتاح على الروس والأميركيين والصينيين والعرب وإسرائيل التي احتلت مزيداً من الأرض السورية بعد الجولان، وفي الطليعة قمة جبل الشيخ الحاكمة سوريا ولبنان والأردن.
أما ترمب فإن الشرع قدم له ما لم يحصل عليه رئيس أميركي من رئيس سوري، وأبرز ما قدمه أربع أوراق مهمة، الأولى هي إخراج النفوذ الإيراني عسكرياً وأمنياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً من سوريا، والثانية هي الاستعداد لتوقيع اتفاق أمني مع إسرائيل بشروطها في الجنوب السوري ومن دون التوقف أمام احتلال الجولان، مجرد عودة إلى نسخة قريبة من اتفاق فك الارتباط لعام 1974، والثالثة هي إخراج الاقتصاد السوري من بقايا الاشتراكية ورأسمالية الدولة إلى الليبرالية الاقتصادية والانفتاح على الغرب من دون إهمال تاريخ العلاقات السورية مع الشرق، والرابعة هي التزام المشاركة في الحرب على الإرهاب.
لكن الأهم من كل هذا الانفتاح على الخارج بعد أعوام من الانغلاق هو الانفتاح على الداخل والخروج من دائرة هيئة تحرير الشام الضيقة إلى رحاب التعدد في المجتمع السوري وإشراك النخب والكفاءات وكل ألوان الطيف السياسي في إدارة السلطة لبناء الدولة، فلا سوريا اليوم هي سوريا التاريخية، ولا السلطة المركزية الشديدة في نظام شمولي على مدى نصف قرن أبقت شيئاً من الدولة في البلاد.
ولا مهرب من تقديم أجوبة شفافة عن أسئلة كثيرة حول التحديات أمام سوريا والشرع، أين سوريا بين "سورية" أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام و"كونية" السلفيين الجهاديين الأجانب؟ إلى أي حد يستطيع الشرع حل مشكلة المقاتلين الأجانب أو إخراجهم من البلاد؟ وقبل ذلك، ماذا بقي من الجولاني في الشرع، وإلى أي درجة يستطيع الخروج من جلباب الجولاني ومقولاته، ثم تغيير سلوك السلفيين المتشددين الذين صاروا في السلطة، وخصوصاً في الأجهزة الأمنية؟
الواقع أن المرحلة الانتقالية في سوريا غير شفافة، فلا سوريا اليوم ثورة، ولا هي دولة، بل سلطة ضيقة يديرها رجل واحد يساعده على الوزارات والأجهزة الحساسة والإدارات رجال لا خبرة لهم خارج القتال. الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع وتعرضوا للرصاص والقمع، ومئات الألوف الذين دخلوا السجون وعشرات الألوف الذين ماتوا تحت التعذيب أو بقرارات سياسية، وبقية الذين أسهموا في الثورة منذ 2011 إلى 2024 لا مكان لهم في الإدارة الجديدة، والدولة التي دقت ساعة بنائها تحتاج إلى أدوار المحترفين والمتخصصين في كل مناحي الحياة، كما إلى أهل التفكير لا إلى جماعة التكفير.
بعد موت الحياة السياسية في صحراء النظام المنهار فإن إحياءها مستحيل من دون عودة الأحزاب والنقابات والجمعيات التي تعمل بحرية، ولا أحد يستطيع تجاوز المجتمع الأهلي في سوريا، لكن الحاجة كبيرة إلى المجتمع المدني وحراكه ونقاشاته وحركاته، وليس من المعقول إسناد مناصب في السلطة لأشخاص من مرتبة ما قبل الدولة، والتحديات عظيمة.
و"كلما عظم التحدي اشتد الحافز"، كما قال المؤرخ الكبير أرنولد تويني.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية