رسول عدنان*
سيتم تقسيم قصيدة “خلف أسلاك شائكة” للشاعر العراقي منذر عبد الحر إلى أربعة مقاطع لتسهيل تحليل عناصرها وتفكيك بنيتها. يهدف هذا النهج إلى إجراء عزل منهجي للمقاطع الأربعة من أجل تحقيق قراءة تحليلية دقيقة.
الجو العام للنص:
يبرز الوطن كأرض وكفضاء ماديين، تنصهر فيهما الأفكار والتوترات الاجتماعية، وينعكس فيهما الولاء لهذا الوطن المقدّس المدّنس، أمّا قدسيتُه فتأتي من ذلك الانتماء له، وذلك الحبّ العفوي الراسخ الذي ينشأ بالفطرة، وأمّا المدّنس فعندما تتسلط طغمة إجرامية تصادر الوطن وأهله، حرياتهم وحقوقهم ووجودهم، بالإضافة إلى حياتهم، عندها يتحوّل هذا الانتماء وهذا الحب إلى أداة لتفكيك الثنائيات المعهودة بين المقدس والمدنس، بين الروحي والمادي، وهنا تعاد صياغة العلاقة بين الإنسان والمكان، بين المواجهة، أو كتابة تاريخ تلك المرحلة، شعرا ونثرا، ليأتي اليوم الذي يطلقها الشاعر أو الكاتب إلى العلن، ليعلن عما كان يُضمره من موقف حقيقي إزاء قتل وطن، ووأد شعب، إزاء حقبة مظلمة دمّرت البلاد والعباد.
دلالة عنوان القصيدة
تشكل هذه القصيدة التي تتحدث عن فترة مظلمة من فترات الزمن التي مرّ بها العراق، حيث حوّلت الديكتاتوريّة البلد إلى سجن كبير محاط بأسلاك شائكة، وهنا يكتب الشاعر هذه القصيدة كمصدر للوعي الجماعي الذي يُشكّل الشخصيّة وتفاعلاتها، لتنقل لنا جزءاً من معاناة الشعب العراقي أبّان فترة الحكم الإجرامي البعثي، فجاءت صور القصيدة سوداوية واقعية، استنفر الشاعر كلَّ وعيه ولا وعيه في رسم صورة البلد والشعب الذي كان يعاني من حروب وحصارات ودمار في كلّ جوانب الحياة، جاءت هذه القصيدة كزفرة يطلقها الشاعر لينفّس بها عمّا تضمره نفسه من موقف إزاء الأحداث اليوميّة التي يرى شعبه يعاني منها، جاءت هذه القصيدة مؤرخة لحقبة سوداء مرّت بالعراق، كسجل فكري ومادي يتشابك فيه التاريخ والذاكرة والصراع من أجل البقاء، بشكل واقعي حوّله الشاعر إلى رمزي ليترجم تلك العلاقة بين أفراد المجتمع وحياتهم بشكل واقعي ارتقت به شعريّة الشاعر إلى الرمزي، بعد أن حوّلت الديكتاتورات هذا الوطن إلى سجن كبير، محاط بأسلاك شائكة، غير قابلة للتجاوز، جاءت هذه القصيدة تحكي لنا بعض ما دار داخل هذا السجن (الوطن) المحاط بهذه الأسلاك الشائكة،
المقطع الأول
لقد تغيّرنا جميعا
الدوائر التي كانت لعب أطفال
نرمي سهامنا على أرقامها
صارت مصائر حملتنا على سطحها
ودارت بنا بانتظار الرماة
ندور
وتدور
لا أحد يدري أيّ سهم يصطاده
أسلحتنا… الصبر
والنزف
والترقب
نفد عتادنا
وبدل أن نفتتح صباحاتنا بالغناء
صرنا نهرب إلى ظهيرات قاحلة
يدخل الشاعر إلى نصّه عبر إعادة شحن مخزون الذاكرة التي تكتنز في خلاياها ذكريات طفولية بريئة، فمن لعبة رميّة السهام المعروفة آنذاك بين أطفال العراق، حيث تعلق رقعة مدورة مرقمّة على الحائط ثم يبدأ الصغار برمي السهام، ثم عمد إلى تحويل هذه السهام إلى سهام الأقدار التي طالت تلك البراءة، حيث حوّل الشاعر السهام (اللعبة) إلى سهام المنيّة التي ترمى بها (مصائرنا) فقد تحوّل المشهد من البراءة إلى الحزن، إلى انتظار مصير مجهول عبر الانزياحات الدلالية المتتالية، التي أنتجّت دلالة لفظيّة، واحتفظت بعلاقاتها السياقيّة ضمن مفهوم الحقل الدلالي، حيث تحوّلت مفردات (الصبر، النزف، الترقب) بمقابلة للأفعال الثلاثة (دارت، ندور، تدور) مرتبطة بشكل انزياحي بالمعنى الذي يتوالد من اللفظ الأوّل في جملة (لقد تغّيرنا)، لتحيل بدورها إلى انزياحات لفظيّة مركبة متتاليات أحالية بجملتين لعبتْ الطاقة الفونيمية التي يكتنزنا حرف الواو دور الرابط والمؤسس لهذه الإحالتين بقوله:
وبدل أن نفتتح صباحاتنا بالغناء
صرنا نهرب إلى ظهيرات قاحلة
نلاحظ أن هذه اللغةَ تعمدُ إلى تغيير نظام علاقاتِها النسقيّة لتقوم بإنتاج دلالات جديدة، وبتفكيك لهذه الجملتين نلاحظ: مفردة (بدل) تحوّلت إلى (صرنا) والفعل (نفتح) تحوّل إلى (نهرب) و(صباحاتنا) إلى (ظهيرات)، وأخيرا (الغناء) إلى (القاحلة)، فعبر حركيّة التدليل تحوّلت هذه المفردات إلى انزياحات دلالية منتجة للسياقات الدلالية، التي من الممكن ملاحظتها من خلال النسق الشعري داخل النص.
المقطع الثاني
تقول لنا الطرق:
قفوا مكانكم
ها هي عربات الخوف تمرّ
جندي فقد ذراعاً في حرب ما
يستوقفني:
أعطني حقي منك
أنت بكامل أعضائك
وأنا بكامل عطبي
أركض خلف سراب وطن لا يعرفني
أرى كلّ شيء عدوّا
لم أعد لائقا بالموت
الأرصفة بيتي
والسجائر امرأتي
الجوع موسيقى
والحزن زهوري
أعطني كسرة من حياة
أو
كن صديقا لي
ولنقف معا
خلف أسلاك شائكة
نبصر شمعة بلادنا
وهي تذوي
ينتقل الشاعر إلى لوحة أخرى من القصيدة ليرسم لنا جانبا من المعاناة، بل المأساة التي يعيشها الشعب خلف الأسلاك الشائكة حيث نرى (عربات الخوف) (جندي فقدَ ذراعاً في حرب ما) (أنت بكامل أعضائك) (وأنا بكامل عطبي) هذه الصور المرعبة والمأساة في حياة شعب يعيش (خلف أسلاك)، وطن تحوّل إلى سجن كبيرٍ محاطٍ بهذه الأسلاك، التي أحسن الشاعر اختيار المفردات وفي مكانها الصحيح، حيث نجح في تقريب الصورة إلى الحياة التي عاشها العراقي في ظل الديكتاتوريات في أصعب ظرف مرّ به العراق في تلك الفترة، هذه الانزياحات الدلالية حوّلت المشهد الشعري إلى مشهد سينمائي، لم يعد هناك من الوطن غير سراب وطن (أركض خلف سراب وطن لا يعرفني). استمر الشاعر في رسم منحى درامي عبر حوار تجريدي بين مقابلين (أنتَ بكامل أعضائك) (وأنا بكامل عطبي) على مقاربة رسم المعاناة، عبر حوار مونودرامي عبر المتتاليات الدلاليّة لشخصيتيّ القصيدة شخصية الرمز والذات الشاعرة، من الواضح أن الشاعر ابتعد عن السرد الاستطرادي، واكتفى بالتوظيف الرمزي مستخدما الانزياحات الدلاليّة للشخصيات والأحداث والرموز والمكان، ليضفي على نصّه روعة صياغيّة فنيّة، من خلال هذه الصور التي تترى بالقصيدة.
الأرصفة بيتي
والسجائر امرأتي
الجوع موسيقى
والحزن زهوري
هذه الصور ارتقت بشكل تصاعدي بالمَشاهد المونودراميّة مقتربةً من الواقعيّة، التي وظّفها الشاعر بشكل أنيق خدم بها فكرة النص، وربط بها محاور الموضوع (خلف أسلاك شائكة)، في حين نرى أن الأفعال التي اختارها قد أدّت دورها كوظائف إسناديّة في مفاتيح الجمل وبشكل دقيق (أركض، أرى، أعد، أعطني، كن، نبصر، تذوي) قادت إلى تكريس المشهد، حيث تحوّل الشاعر إلى مخرج لمأساة بلده، يجمّع هذه المشاهدة، ثم يوزّع الحوار في مفاصل النص، راصداً المشهد بشكل دقيقٍ مفصّلٍ جعل اللغة الشعريّة تنتج دلالةً لفظيّة تتخذّ خطاً أفقياً تصاعديّاّ في نقل صورة حياة خلف الأسلاك، مستغلاً الطاقة الدلالية لكلّ فعل، وتوظيفها بدقة متناهية لمقاربة المشهد.
المقطع الثالث
أ لست في أرض حرام؟
انظر هناك حقل ألغام
هذه ليست مدينة
هذا قنّاص
تلك دوريّة
هؤلاء جرحى
لقد حملنا الحرب معنا من طفولتنا
نعم
لنا نياشين وأوسمة
هي خدوش في الروح
وشظايا متناثرة في العقل
وذكريات ظل دمها حارّا
في هذا المقطع يبدأ الشاعر حواراً تجريديّا، تتلاحقُ فيه الأسئلة، يكون فيه هذا الحوار عبارة عن انعكاس لتجربة الشاعر نفسه، ليصف لنا جانبا من الحروب، التي عصَفتْ في العراق، حيث (الأرضُ الحرام، حقول الألغام، القناص والدوريات والجرحى)، هذه مفردات حرب عايشها الشاعر وشعبه بشكل اضطراري بعد الكوارث التي حلّت بالعراق في زمن الديكتاتوريات، وكيف تحوّلت هذه الذكريات من الطفولة الصعبة التي عاشها العراقي في ظل هذه الكوارث إلى (هي خدوش في الروح) (وشظايا متناثرة في العقل) (وذكريات ظلّ دمها حارّا)، هكذا نجحَ الشاعر في وصف هذه الحياة الصعبة، بل المميتة خلف أسلاك شائكة، من خلال إحالات لفظيّة أدّت إلى دلالاتٍ قادتْ المشهدَ إلى رسم صورةِ المأساة التي كان الشاعر شاهداً عليها، حيث وظّف الشاعر عمليّة التقطيع السينمائي، في رصد المشاهد وتحويلها إلى ميلودراما من خلال الحوار الرمزي، الذي لعبتْ به الذكريات ودلالات التوظيف الدلاليّ دورها بشكل دقيق، موحدة المشهد ورابطة مفاصل النص.
المقطع الرابع
لقد تغيرنا جميعا
انصرف الآباء إلى ظلماتهم
وجمعت الأمهات مزق أدعيتهن
ومضينا
جنودا عزّل
نقاتل نهارات خائفة
ونرحل في الليل إلى مدن مهجورة
فتحنا ضماداتنا
فبزغت جراحنا المنسية
وانسابت خيوطا
ترسم بالدم خريطة لوطن جديد
يصل الشاعر إلى الخاتمة إلى النتيجة، حيث الآباء ماتوا، أمّا الأمهات فوصلنْ إلى مرحلة اللاجدوى فمزقنّ أدعيتَهنّ، وأمّا الشباب فتحوّلوا إلى جنودٍ عزّل، وهذه إحالة على عدم المشاركة في الحرب أو رفض المشاركة فيها، أمّا دلالة النهارات الخائفة، فهي الخوف من الأجهزة القمعية بأن تلقي القبض على هؤلاء الجنود العزّل، ومن خلال صورة الهاربين من الخدمة العسكرية، حيث يتنقلون ليلاً إلى مدنٍ غير معروفة نتيجة الهرب، وهكذا تحوّلتْ هذه الجراح التي خبأتّها ضمّادات الإصابات الجسديّة والنفسيّة لترسم خريطة لوطن حرّ جديد، بعيدٍ عن الأسلاك الشائكة، التي وضعها الديكتاتور بعد أن حوّل العراق إلى سجن كبير محاطٍ بأسلاك شائكة.
الخصائص الفنية للقصيدة
تكوّنت هذه القصيدة من مستويين دلاليّين.. المستوى الأول:
إنً فنيّة القصيدة تمثلُت برسم صور المآسي التي كان يعيشها أبناء العراق إبان تلك الحقبة المظلمة من حكم البعث القمعي، حيث نجح الشاعر في تقريب الفكرة عبر رسم الصور المأساوية التي عاشها شعبه، مستغلاً الانزياحات الدلاليّة للمفردات والصور، عبر تقنية التقطيع السينمائي والسرد الشعري، من خلال الفكرة لإعطاء صورة واقعيّة لتلك الحقبة المظلمة التي عاصرها الشاعر، وكان شاهدا عليها، لتؤرّخ هذه القصيدة لواحدة من أكثر الفترات قساوة وظلما للعراقي عبر العصور.
المستوى الثاني: هي التي أخفى الشاعر موقفه من نظام ديكتاتوري، حوّل بلده إلى سجن كبير محاط بأسلاك شائكة، حيث أضمر الشاعر غير ما أظهر من مشاعر ومواقف، وهنالك مبرراتٌ كثيرة لهذا الموقف، لعلّ أبرزها إنّه يتعاملُ مع نظام مجرم لا يتورّع عن قتل أيَّ شخص لسبب أو دون سبب، وكأنّ الشاعر استحضر حديث الرسول (ص) من رأى منكم منكراً فليغّيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الأيمان، لكنّنا نرى الشاعرَ قد أنكره بقلبه وغيّره بشعره، حيث حفظ لذاكرة الأجيال بعض الصور من تلك الحقبة المظلمة التي عاصرناها جميعا.
*ناقد وشاعر عراقي