مصر وجوارها الشرق أوسطي
2025-01-24 | منذ 7 ساعة
عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

تعيش مصر في شرق أوسط مليء بالتهديدات والأخطار التي يظل التمسك بالسلام كخيار استراتيجي ومن ثم الابتعاد عن التورط في الحروب والصراعات الدائرة هو السبيل الأفضل لمواجهتها.
فإلى الغرب من الأراضي المصرية، نشبت حرب أهلية في ليبيا انهارت بفعلها العملية السياسية الرامية من جهة لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وصياغة عقد جديد بينها وبين المواطنات والمواطنين في أعقاب سقوط نظام القذافي، وتواكب معها صراع عسكري بين قوى وميليشيات متناحرة استدعى تدخلات أطراف إقليمية ودولية متعددة، ووجدت بها جماعات إرهابية مساحات واسعة لجرائمها ولتصدير عنفها عبر الحدود. ومثل ذلك تهديدا مباشرا لأمن مصر وأمن مواطنيها العاملين في ليبيا، وهو ما تطلب من القاهرة البحث عن حلفاء لها بين القوى المتصارعة على الحكم والتنسيق مع الأطراف الإقليمية (الإمارات) والدولية (فرنسا) الصديقة للحيلولة دون استمرار الحرب الأهلية والمساعدة على بناء التوافق الوطني. بل أن الحكومة المصرية تحركت عسكريا على نحو محدود ضد بعض الجماعات الإرهابية التي تمركزت في الشرق الليبي وهددت أمن الحدود وارتكبت جريمة حرب بقتل 21 مصريا قبطيا في 2015، وتحركت بخليط من الأدوات العسكرية والدبلوماسية لوضع حد للتوغل التركي في الغرب الليبي، وتعاونت مع الأمم المتحدة لصياغة خارطة طريق للعملية السياسية ولبناء المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية الموحدة.
وإلى الجنوب من الأراضي المصرية، غاب الاستقرار السياسي والمجتمعي عن السودان حتى تفجر الصراع بين الجيش وبين قوات الدعم السريع في ربيع 2023 بعد أن عجزت القوى الرسمية والشعبية عن بناء مؤسسات حكم ذات شرعية قانونية وذات قبول عام في أعقاب سقوط نظام عمر البشير في ربيع 2019. حتى نشوب الحرب الأهلية السودانية، وهي أبدا ليست الأولى في التاريخ المعاصر لهذا البلد مترامي الأطراف والغني بتنوعه البشري وثرواته الطبيعية والمنكوب بحكومات لم تتمكن لا من توظيف المساحة والتنوع والثروة لتحقيق التنمية المستدامة ولا من حماية تماسكه الإقليمي، عملت القاهرة، وبجانب إجراءات حماية وضبط الحدود لحرمان الجماعات الإرهابية وعصابات التهريب والجريمة المنظمة، على احتواء التهديدات والأخطار الواردة على أمنها القومي بتطبيق سياسة «الحوار مع كل الأطراف» والوقوف على مسافة واحدة منهم جميعا. وفي سبيل التأمين إلى جنوبها، عملت القاهرة على تقوية علاقاتها مع دولة جنوب السودان وعدد من دول حوض النيل صاحبة الأدوار الهامة فيما خص ضمان حصة مصر من مياه النيل. ثم وضع نشوب الحرب الأهلية وتداعياتها الكثيرة، إن الضحايا في الأرواح والمنشآت العامة والخاصة أو الغياب الكامل للأمن الإنساني وانهيار مقومات الحياة في عموم السودان أو النزوح الداخلي والخارجي لما يقرب من ثلث السكان والذي رفع على نحو كبير وسريع أعداد اللاجئين السودانيين في مصر، صارت السياسة المصرية في مرحلة مختلفة أولوياتها هي مساندة الجيش السوداني في صراعه مع ميليشيات الدعم السريع ومساعدة المؤسسات الرسمية في التعامل الاحتوائي مع الأوضاع الإنسانية في كافة مناطق السودان وتعبئة المواقف الإقليمية والدولية في اتجاه الحفاظ على وحدة التراب السوداني والانتصار لشرعية الدولة الوطنية وإنهاء ثنائية الجيش والميليشيات.

وإلى الجنوب من السودان لم يكن الأمر بين القاهرة وأديس أبابا، وإثيوبيا هي دولة منبع النيل الأكثر تأثيرا على توزيع الموارد المائية لمشاركيها في حوض النيل وهم تنزانيا وأوغندا ورواندا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكينيا وإريتريا وجنوب السودان والسودان ومصر، لم يكن الأمر بينهما على ما يرام. على الرغم من توقيع حكومتي البلدين ومعهما الحكومة السودانية في 2015 «لوثيقة سد النهضة» وهي إعلان مبادئ نص على التزام الأطراف الثلاثة بالاقتسام العادل لمياه النيل، واصلت الحكومة الإثيوبية سياستها الانفرادية فيما خص مراحل بناء وتشغيل السد وتخزين المياه في بحيراته دون اعتبار لحقوق ومخاوف مصر والسودان ودون تعاون جاد مع جهود الوساطة التي قام بها الاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي. بل أن التعنت الإثيوبي دفع مصر من جهة إلى مخاطبة مجلس الأمن أكثر من مرة طلبا لحماية حقوقها المائية وتحذيرا من تهديد السلم والأمن في حوض النيل، ومن جهة أخرى تحركت دبلوماسية القاهرة لحشد التأييد الإقليمي والدولي لموقفها دون أن يسفر ذلك عن تغيير حقيقي في سياسة أديس أبابا.

لمصر مصلحة حيوية في التمسك بخيار السلام وفي عمل جماعي بين
الفاعلين الإقليميين يسفر عن ترتيبات أمنية في المشرق بكافة ساحاته


وإلى الشرق، كانت مآلات الأحوال في الجزء الآسيوي من العالم العربي تقلق مصر نظرا لغياب الاستقرار السياسي والمجتمعي عن العراق وسوريا ولبنان وتعرضهم جميعا للاضطرابات الناجمة عن تغول الميليشيات المسلحة وتواصل حضور الجماعات الإرهابية وتهديدها المتنامي للسلم الأهلي وضعف مؤسسات الدولة الوطنية إن بفعل خليط الطائفية والفساد والتدخل الخارجي كما في العراق ولبنان أو بسببه ومعه مفاعيل الديكتاتورية المفزعة في سوريا. غير أن مصدر القلق المصري المباشر كان على الحدود الشرقية مع قطاع غزة الذي نفذت من خلاله، من جهة، أسلحة وذخائر إلى مجموعات إرهابية ارتكبت جرائم عديدة في سيناء وكلفت قوات الجيش والشرطة والمواطنين مئات الشهداء بين 2014 و2021 حتى تمكنت الدولة من دحرها. ومن جهة أخرى، وعلى وقع التجدد الدوري للمواجهات المسلحة بين حركة حماس وإسرائيل واستمرار الحصار الخانق للقطاع، كررت الحكومة المصرية جهود الوساطة بين الطرفين أكثر من مرة بين 2014 و2023 وحاولت استعادة شيء من الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية التي بدت أحوال الشرق الأوسط وكأنها في سبيلها إلى تهميشها.
وحين نشبت حرب غزة 2023 واجهت مصر تهديدات حقيقية لأمنها القومي ولدورها الإقليمي المستند إلى السلام كخيار استراتيجي وإلى الحوار والدبلوماسية والتفاوض كسبل وحيدة لإنهاء الصراعات وصناعة الاستقرار.
تمثل التهديد الأول للأمن القومي لمصر في خطر التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزة والذي، وإن لم يعد هدفا علنيا لحكومة اليمين المتطرف والديني في تل أبيب، يظل أمرا لا تمانع إسرائيل في حدوثه بجعل القطاع المدمر منطقة غير صالحة للحياة ودفع أكثر من مليوني فلسطيني إلى خارجه في اتجاه الحدود المصرية. تنبهت القاهرة لخطر التهجير القسري وحشدت الدبلوماسية المصرية دعما إقليميا ودوليا متعدد الأطراف لرفضه وأجبرت حكومة بنيامين نتنياهو على الابتعاد العلني عن سيناريوهات التهجير، ويتعين عليها مواصلة العمل في هذه السياقات. أما التهديد الثاني للأمن المصري فارتبط بكون تل أبيب التي ترتبط مع القاهرة بمعاهدة سلام (معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 1979) وبعلاقات دبلوماسية لم تعد شريكا لا للسلام الإقليمي ولا لدبلوماسية إنهاء الحروب وتسوية الصراعات.
بل أن إسرائيل خاطرت بحربها المستمرة في غزة وبتعنتها فيما خص إدخال المساعدات الإنسانية لسكان لا يجدون ومنذ أكتوبر 2023 المتطلبات الأساسية للحياة وبتحايلها على الخطوط الحمراء المصرية فيما خص وضعية ممر «فيلادلفيا» كمنطقة منزوعة السلاح وضرورة أن تكون إدارة معبر رفح في الجهة الفلسطينية للفلسطينيين؛ خاطرت إسرائيل بتعريض السلام بينها وبين مصر لأزمة شاملة. وبإعلان نتنياهو المتكرر لتنصله الكامل من حل الدولتين كأساس للسلام في الشرق الأوسط ونفيه لإمكانية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو التوجه الذي تؤيده أغلبية باتت تقترب من 60 بالمائة بين الإسرائيليين، صارت مصر مع استحالة فعلية لأن تكون إسرائيل شريكا في صناعة السلام وبناء الأمن والاستقرار الإقليميين. ثم نأتي إلى تهديد ثالث وخطير يرد على الأمن القومي لمصر وفي لحظة تتعرض البلاد فيها لتهديدات من كافة جهات حدودها الأخرى (جنوبا بسبب الحرب الأهلية في السودان وبسبب التوترات عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وفي القرن الإفريقي ومع إثيوبيا بسبب ملفات المياه والأمن، وغربا بسبب الصراعات الأهلية المستمرة في ليبيا) وهو التهديد المرتبط بانزلاق الشرق الأوسط وبسبب حرب الاستنزاف الجديدة إلى أتون مغامرات عسكرية مستمرة وسباقات تسلح متصاعدة وأخطار جمة تنتج عن دوائر العنف والدمار وغياب الاستقرار. مشهد إقليمي كهذا، وكافة ملامحه تتبلور اليوم في المشرق العربي، يضغط بشدة على مصر كدولة تعتمد السلام والحوار والدبلوماسية والتفاوض كسبل وحيدة لممارسة الفعل الخارجي الرشيد في جوارها المباشر وجوارها الممتد.
فالحدود المصرية ملاصقة لأحزمة أزمات خطيرة في كافة الاتجاهات، إلى الغرب والجنوب والشرق، وتدفع البلاد ثمنا باهظا لحرب الاستنزاف الجديدة في الشرق الأوسط يتمثل في أخطار الأمن القومي الواردة من غزة والمترتبة على التغول الإسرائيلي وسباق التسلح الكارثي في الإقليم والناجمة أيضا عن تراجع عائدات قناة السويس وإشكاليات إعاشة ودمج اللاجئين. منذ نشوب حرب غزة، والقاهرة تعمل على إطفاء الحرائق المشتعلة بالتعاون مع العواصم النافذة كأنقرة والرياض وأبو ظبي وبشيء من الانفتاح الدبلوماسي على طهران وبكثير من الصبر الاستراتيجي على تل أبيب التي لم تتورع عن إدخال علاقات العاصمتين الثنائية في توترات حادة.
لمصر، ووساطتها كانت ضرورية لإنهاء الحرب في غزة وتظل ضرورية بحث في ترتيبات اليوم التالي ولإعادة القضية الفلسطينية وحل الدولتين إلى الواجهة، لمصر مصلحة حيوية في التمسك بخيار السلام وفي عمل جماعي بين الفاعلين الإقليميين يسفر عن ترتيبات أمنية في المشرق بكافة ساحاته.


*كاتب مصري
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - القدس العربي

 



مقالات أخرى للكاتب

  • فوز ترامب والجمهوريين: إنه الاقتصاد!
  • نتنياهو وإعادة احتلال غزة
  • ثنائية الدعم والمماطلة: كيف تدعم واشنطن تل أبيب في حروب الشرق الأوسط






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي