مروان ياسين الدليمي *
تبرز في السرد الروائي ظاهرة مثيرة تعكس العلاقة بين الإنسان والعالم المادي، ألا وهي «أنسنة الأشياء»، هذا المفهوم يتجاوز الفكرة البسيطة للأشياء الجامدة، بل يمنحها صفات إنسانية، كالعواطف والأفكار والقدرة على التصرف. والأنسنة من التقنيات التي يستخدمها الكتاب لإضفاء شيء من الغرابة على النص الروائي، إضافة إلى أنها تبرز الروابط الخفية التي تجمع ما بين الإنسان ومفردات المحيط الذي يعيش فيه. وأنسنة الأشياء غير الحية في السرد إضافة إلى أنها قديمة قدم السرد، فهي تمنحها خصائص بشرية تشمل المشاعر والوعي، والإرادة والتفاعل مع البشر، كأن تمنح كرسيا شعورا بالراحة، أو أن تجعل الزهور تتكلم مع الشخصيات، أو أن جدارا يحكي قصته الخاصة، ومثل هذا التوظيف الأدبي لا يقتصر على الأشياء المادية، بل يمكن أن يشمل أيضا ظواهر طبيعية وحيوانية ومفاهيم مجردة. ومن خلال أنسنة الأشياء، يمكن للروائي أن يمنح الحياة للأشياء المادية، ما يتيح للقارئ تجربة جديدة للعالم الذي من حوله، عندما يُنسب للأشياء وعي ومشاعر، فتتحول البيئة المحيطة إلى كائنات حية تعيش وتتنفس، ما يعزز من أهمية المكان في الرواية ويجعله شخصية فاعلة، لا مجرد خلفية للأحداث. وكثيرا ما تُستخدم أنسنة الأشياء للتعبير عن الرموز والدلالات داخل النص الأدبي، فالأثاث الذي يزداد اهتراءً قد يرمز إلى انهيار العلاقة بين شخصين، أو قد يدل على تدهور الحالة النفسية، وقد تكون الأشياء المؤنسنة وسيلة لتجسيد العواطف المكبوتة، أو الجوانب غير المرئية من الشخصية. مثلاً، في رواية «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، تتداخل الأشياء مع مشاعر الشخصيات، فتصبح الجدران والأثاث جزءا من القصة العاطفية. وأنسنة الأشياء تحفز القارئ على التفكير في العلاقة بينه وبين العالم المادي، وقد يشعر بتأنيب ضمير بسبب تصرفاته تجاه الأشياء التي يحطمها، أو يهملها، بالتالي فإن هذه التقنية تدفع للتفاعل مع البيئة المادية بطريقة غير تقليدية، مما يخلق وعيا جديدا حول الكيفية التي نرى بها عالمنا.
ومن الناحية النفسية، يمكن أن تعكس أنسنة الأشياء رغبة الإنسان في السيطرة على العالم المادي، أو رؤيته بطريقة أكثر إنسانية. وقد تعكس أيضا صراع الشخصيات مع الوحدة، أو الهويات المفقودة، ومن المنظور الفلسفي، يمكن أن ترتبط أنسنة الأشياء بفكرة تفاعل الإنسان مع البيئة والطبيعة والوجود، وقد تصبح الأشياء من خلالها مرآة لعواطف الإنسان، تعبيرا عن معاناته أو تطلعاته.
عالم فانتازي
رواية «أحفاد معطف السيد غوغول» لبيات مرعي، صدرت منتصف عام 2024، من الوهلة الأولى تحيلنا عتبة العنوان مباشرة إلى قصة «المعطف» الشهيرة للكاتب الروسي غوغول، التي كتبها عام 1842 وأصبحت في ما بعد منعطفا مهما في الكتابة السردية الروسية، وخارج روسيا، حيث تحول السرد بتأثير منها، من عوالم الشخصيات التي تنتمي إلى الطبقة البورجوازية بعوالمها المخملية إلى الواقع السفلي من المجتمع، وأخذ السرد ينهج مسار الواقعية، ولتحفل الرواية بشخصيات تنتمي إلى قاع المجتمع، بما تواجهه من صراعات بكل ما في الحياة من قسوة وتوحش، وما يفرزه المجتمع الطبقي من انقسامات حادة.
بيات مرعي في روايته وعبر مجموعة من المعاطف المهترئة عاد بنا إلى عالم فانتازي، ليسرد من خلاله أحلاما إنسانية واقعية، وهنا تكمن المفارقة الفنية في بنية النص، عندما اختار أن ينحو بعمله السردي إلى ناحية التخييل بعيدا عن الواقع، مفترضا لمعطف غوغول في قصته المعروفة لدى متذوقي الأدب عددا من الأحفاد/ المعاطف، وكل واحد منها بلون يختلف عن الآخر، واختيار اللون يأتي من باب مرجعيته الطبيعة والنفسية ودلالته الثقافية والاجتماعية للشخصيات التي ارتدت المعاطف قبل أن تتخلى عنها.
تخييل ليس واقعيا
نحن أمام سردية روائية جنحت عاليا في افتراضات التخييل اللاواقعي، عندما حوِّلت المعاطف إلى كائنات مؤنسنة، تفكر وتحلم وتتمرد، وتغضب وتستذكر وتتألم، ليكون بينها وبين الإنسان الذي يرتديها مشتركات كثيرة، فلها أشواقها وأحزانها وأفراحها بينما هي تقبع في قبو مظلم، بانتظار أن تجف بعد أن بللها المطر أثناء عملية نقلها، ليتم حلجها ولتعود إلى حالتها الأولى، بأن تصبح خيوطا من الصوف، مثلما كانت عليه قبل أن تصنَّع إلى معاطف. والمعاطف بألوانها المختلفة، وما تشير إليه من أبعاد طبقية واجتماعية وإنسانية، تبدأ بسرد حكاياتها من بعد أن تخلى عنها أصحابها لتلتقي جميعها في القبو، قبل أن يتم دفعها إلى المحلج. وكل معطف يستعرض سيرته الخاصة قبل أن يبلى، مع من كان يرتديه لسنوات طوال، فنتعرف على دواخلها وهواجسها وذكرياتها وتطلعاتها نحو الحرية والحب والحياة. فالمعاطف استحالت هنا إلى قناع، من خلاله مرر المؤلف أفكاره حول ما يتعرض له الإنسان من عمليات قهر وإذلال، كما هي المعاطف التي انتهى بها المطاف في قبو بانتظار أن تُحلج من قبل عاملين اثنين أحدهما أعور، والثاني أصلع، رغم ما كانت عليه من أهمية في حياة الإنسان وحاجته إليها.
ولأنَّ مرعي واحد من كتاب المسرح في العراق، فقد بدت البنية الحوارية الدرامية واضحة في صياغة الرواية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرواية كانت نصا مسرحيا، قبل أن تتحول إلى بنية سردية، وتم تقديم النص على خشبة المسرح من قبل مرعي نفسه، باعتباره يمارس الإخراج المسرحي أيضا.
تحولات الدلالة
ما ينبغي التوقف عنده في هذه الرواية، أنها أنسنت المعاطف، فأصبحت تحمل قدرا من الهموم والتطلعات الإنسانية، فالمعاطف تفكر بالثورة على الإنسان الذي تجرد من إنسانيته وهو يتعامل معها كما لو أنها شيء بلا حياة، حتى إنه في مآلات سلوكه المنحرف عن فطرته، يتحول بوعيه وإرادته إلى أن يكون شيئا، يفتقر إلى الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، ويعزف عن التواصل مع الآخرين ومع المحيط الذي يوجد فيه، على عكس طبيعته التي جُبِل عليها. فالأنسنة في السرد كما في رواية بيات مرعي ليست مجرد تقنية، بل أداة لفهم العلاقة بين الإنسان وعالمه المادي، ومن خلالها خلق الروائي بنية سردية أكثر تفاعلاً وتنوعا من الواقع نفسه، ومنح القارئ فرصة رؤية الحياة من منظور جديد، فالأشياء التي تُمنح خصائص إنسانية في الأدب تصبح أكثر من مجرد أدوات؛ بل شخصيات حية تتفاعل مع البشر، ما يعكس تعقيد الحياة البشرية وعلاقاتها مع العالم المادي الذي يحيطه.
المؤلف مرعي مواليد الموصل 1963خريج معهد الفنون الجميلة فرع الإخراج المسرحي 1984، وخريج أكاديمية الفنون الجميلة فرع التمثيل/ جامعة بغداد 1990، وسبق له أن أصدر روايتين، الأولى «طعنة برد» 2012 عن دار صحارى للنشر، والثانية «زقاق الجمجم» 2022 عند دار الآن ناشرون وموزعون، إضافة إلى مجموعة نصوص مسرحية، ومجموعة قصصية بعنوان «الخيول الجريفونية».