تجريب الأنثروبولوجيا في شعر الليبي خالد درويش

2025-01-06

«أنا الليبي متصل النشيد»رياض خليف*

في سياق الصراع التجريبي المستمر وبحث الشعراء عن أرض جديدة للتخييل، يتجه جانب من الشعر العربي المعاصر نحو الأمس، مؤثثا به صوره الشعرية واستعاراته. ولكن الشاعر العربي تجاوز الأمس بمفهومه التاريخي، لينهل منه بطريقة أشمل ويعيد توظيفه. فلم تعد القصيدة العربية تحمل إرهاصات التاريخ أو الأسطورة فحسب، بل صارت تحمل مادة أنثروبولوجية واسعة. فلم تنقطع القصيدة العربية الحديثة عن استثمار هذا المكون في صورها ومجازاتها، نابشة في بقايا الأمس وحكاياته، هاربة إلى التاريخ والأساطير والعادات، مستصرخة الأمجاد التي حملها الرواة دون تدقيق. فليس من المؤكد أن ما ورد عن تلك الأمجاد صحيح ولكنها الذات الشاعرة، تبحث عما تسد به أوجاعها وتأمل في الانتصار لتاريخ المكان.
هذه التجربة خاضها الشاعر الليبي خالد درويش في بعض تجاربه الباحثة عن قصيد جديد، ومن بينها «أنا الليبي متصل النشيد» الذي يبدو فيه مقتفيا لأثر الأمس البعيد. وخالد درويش من الوجوه البارزة التي صارت تجيد تمثيل الأدب الليبي المعاصر وهو شاعر ينتمي لهذا الجيل الجديد الذي لم ييأس بعد وما زال يحلم ويرفع راية الأمل ويحفر ينابيع جديدة تقي الشعر العربي التصحر. شارك في محافل عربية عديدة ونشر إنتاجه في مواقع وصحف متنوعة، وأصدر أعمالا شعرية مختلفة مثل «زقزقة الغراب فوق رأس الحسين» و»بصيص حلق» و»أنا من راود التحنان».. أما عمله «أنا الليبي متصل النشيد» فقد طبع مرتين (2006 و2023) وجاء في حوالي ستين صفحة من الحجم الصغير، فقد ضم مطولتين حملت الأولى عنوان «أنا الليبي متصل النشيد»، أما القصيدة الثانية فعنوانها «ليبوس يا مفازة العاج والكمأ»، وقد حمل هذا العمل احتفاء خاصا بليبيا وهويتها، موظفا البعد الأنثروبولوجي بشكل كبير.

وشم التاريخ

يكتب خالد في هذا العمل نصوصا شعرية تستظل بالتاريخ ويحتاج قارئها إلى معرفة بتاريخ ليبيا القديم. فهو يستدعي التاريخ والأسطورة، ويعود إلى الأسماء القديمة للمدن (زيوس- ليبوس- باتوس- قورينا- قنطروسة- هيرودوت).
فالشاعر يستنهض الأساطير القديمة ويحييها ويعيد صياغتها كما في هذا المثال:
«إلها يصلي لكي ينقذ هيراكليس من لعنة العطش
من التيه في الأخاديد الميتة أيها الإله العظيم
يا جرزل الشمس ذي قرابين الحصاد
أنقذه يا زيوس
دله على نبع المياه المقدس
جبارين يا وسادة الروح خلف التلال
الذهب وسلال المرق»
والشاعر هنا يستدعي أسطورة قديمة تتعلق بخروج هيراكليس للبحث عن مسلك إلى الهند عبر المتوسط والصحراء الليبية، التي عطش فيها وكاد يهلك وقد أنجده والده زيوس ودله على الماء. كما يعود إلى شخصية أخرى وتتعلق بأحد آلهة ليبيا في الأساطير، وهو جرزل. وفي مقطع آخر يتحدث الشاعر عن باتوس وهو قائد قديم فيقول:
«يا حديقة هيرا
ويل قلب باتوس المضمخ
بقلب قورينا
رياح القبلي تصوغ قصيدة اللفح
تؤجج نار الكهوف وتقدم السلفيوم
لخيل السباق»
فالشاعر يكتب نصا مضمخا بالأساطير ويحتفي بالأماكن والأسماء القديمة التي تشكل جزءا كبيرا من هوية شعب، ولكنها أيضا تتحول إلى رموز يوظفها. وهو هنا يقتفي آثار الحياة الأولى على تلك الأرض، وهو من صميم عمل الأنثروبولوجي. وقد دعم هذا التوجه بإقحام العادات والتقاليد في نصه الشعري..

الحياة الأولى
لم يكتف الشاعر بالعودة إلى آثار الشخوص والأماكن، بل عاد إلى العادات والمآثر والشيم متقمصا ضمير مفرد في صيغة الجمع، مستعرضا بعض المفاخر الاجتماعية والتاريخية:
«هنا كنت أنصب فخا لفيل
عميقا في تربة
الأرض
مغطى بالزروع المضيئة
أو أطارد ماعزا بالصراخ
والخوف على حافة الجرف
تندفع أعشاش صيد النار قوافل لحم
وهو في هذا المثال يعود إلى اشتهار الليبيين القدامى بالصيد، ويوظفه كعلامة حضارية، وهو الأمر نفسه، الذي فعله كي يعبر عن عراقة الكتابة واكتشاف الحروف في ليبيا:
«لي حروف منذ أربع وعشرين مئة
لي نقش على قلب
هذي الصخور
جبارين يصرخ لحظة
الاحتفال
بالنار وبرجوج ماثل للشفاء»
ويفتخر الشاعر بمنطقة «جبارين» لما فيها من نقوش وكتابات آثرية، وهو يشير إلى أن منطقة جبارين في الصحراء الليبية، معرض تشكيلي ثابت مليء بالرسوم الأولى والنقوش الحجرية، أشهرها لوحة حامل السهام، كما توجد فيه لوحة تمثل أول رقصة ليبية.
جبارين يا لعرس المؤله
يا لوحة الليبي الإله
حالما بالمطر
بالسفانا
بلوبيا تسرع الخطى
تشد القرابين زغاريد النساء
هكذا تصبح الكتابة الشعرية عنده في هذا العمل كتابة فخر بالأمس وبالتاريخ البعيد. لقد بدا الشاعر خالد درويش منتصرا لحضارة بلاده محتفيا بخصوصياتها العميقة، وبقطع النظر عن الباب الذي اعتدنا أن ندرج تحته هذا النوع من التآلف بين الشعري والهووي، ونعده في إطار كتابة الهوية وما يندرج تحتها من عناوين. فإن الذي يشغلنا هنا هو تلك العلاقة بين القصيدة الحديثة والأنثروبولوجيا وهي علاقة عميقة وتحفر شيئا من جمالية النص الشعري، ولكنها تكشف عن دلالات متباينة وتحول الكتابة الشعرية إلى كتابة تلتقي مع الكتابات العلمية.

*كاتب تونسي

 








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي