أفضلية القراءة تأتي من كونها عملية حرة عكس الكتابة.

القراءة ثم الكتابة.. علاقة جدلية قد لا تكون حقيقية

الأمة برس
2024-12-20

أرضية الكتابة مسكونة بالقلق عكس القراءة (لوحة للفنانة آني كوركديجيان)كه يلان محمد *


طريق الكتابة يبدأ من القراءة والإبحار في أمواج من الكتب وما يلي ذلك من اكتشاف الأساليب المتنوعة بعدد المؤلفين الذين تقرأ أعمالهم الفكرية والإبداعية. هذه المسلّمة هي ما تسمعها على لسان الكتاب المتصدرين للصف الأول. وما إن يتناول أيّ واحد من هؤلاء السادة تجربته الشخصية للانتقال من موقع القارئ إلى أرض الكتابة حتى يؤكد على أولية القراءة. لكن هذه القاعدة قد لا تنطبق على الجميع. ماذا عن الأشخاص الذين يكتبون أكثر مما يقرأون؟ هل هم مجبولون على الكتابة وهي ليست مهنة يمكنهم اكتسابها؟

قد يوافقنى الكثير من المهتمين بقراءة الرواية أن هناك عددا من المبدعين لا يصعب عليك التبصر في الطابع الفطري لنصوصهم، صحيح أن ما ينشرونه يبدو تنويعا لتشكيلة واحدة أو أن كل ما يتغير في العمل الجديد هو تغيير الأدوار على الخريطة نفسها أو توزيع مختلف دون استبدال الرقعة بغيرها. ألا يذكّر ذلك بمن يمتلك صوتا عذبا ويكون نابغا في الغناء دون الدراية بالتنظير الفني وطبقات الصوت وفهم السلّم الموسيقى؟ ألا يشبه قدر هذه الفئة من الكتاب أصحاب المواهب الذين ينجحون بكل البساطة في فصل الظل عن الضوء واستلهام فكرة اللوحة مما يتغافل عنه بقية البشر؟

طاولة الكتابة
ما يجب أن يكون مبحثا للنقاش ليس حقيقة أو صحة هذا الرأي الذي يجد في القراءات الغزيرة إكسير الإبداع أو خطوة أولى في معترك الكتابة. إنما الأهم هو إدراك ما يقود نحو الكتابة. لماذا لا يمكن الاكتفاء بالقراءة وعدم فتح الباب على ما يرافقه مزاج متقلب وصراع مع يوميات حافلة بالروتين الوظيفي؟

اللافت للانتباه أن من أعلن ولاءه لصفة القارئ الأبدي وعبّر عن سعادته بالتطواف في غابة المكتبات، أو وعد نفسه بأن كل ما يقرأه سيعيشه بجزئيات حياته، انتهى به الأمر إلى طاولة الكتابة. هنا من المناسب الإشارة إلى كل من سارتر وبورخيس فكان الأول يقرأ ثلاثمئة كتاب في غضون سنة واحدة، والثاني كان يقول “فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوها، أما أنا فأفخر بتلك التي قرأتها.”

تأتي أفضلية القراءة بالنسبة إلى صاحب “مديح العتمة” من كونها عملية حرة وليست قسرية يقرأ المرء ما يرغب فيه، بينما لا يقدم في الكتابة أكثر مما هو بمستطاعه. وقد تكون الكتابة محاولة لفك الارتباط بالكتب التي تلاحق القارئ ولا تنتهي علاقته معها بمجرد أن يختتم الصفحة الأخيرة. ومن المحتمل أن تومض إلی الآن عدة عناوين في ذهن كل من يتابع هذا الحديث، على الرغم من المسافة الزمنية التي تفصله عن التوقيت الذي أكمل فيه قراءتها.

ويمكن أن نذكر من واقع التجربة رواية “شوق الدرويش” لحمور زيادة، فقد مضت أكثر من ثماني سنوات على قراءة ذلك العمل الروائي، لكن يبدو دائما كأنه قيد الانتظار، كذلك الأمر مع روايته الثانية “الغريق” التي أتخيلها تعدني بأن بالعودة إليها أكتشف أكثر. وما إن يتحقق هذا الوعد حتى يقتضي الأمر مشاركته مع الآخر من خلال الكتابة. وبذلك نغادر عالمها. إذن من الضروري أن تخلي رفوف الرأس لعناوين جديدة، وهذا يتطلب أن لا يكون التماهي مع الكتب والأفكار إلا مؤقتا.

ما يجدر بالتنويه في هذا الإطار أن ما يلمّح إليه بعض الكتاب على لسان شخصياتهم الورقية من حالة الاندماج بالرموز الأدبية والصوفية والفكرية والفنية يمثل اعترافا بما يعيشونه من الإقامة المتأرجحة في العوالم الموازية، وبالتالي يكون الغرض من الكتابة هو مغادرة هذه المنطقة السديمية وهم يتخذون من الشخصيات فرصة لرؤية هذا الاشتباك كما يتمثل إبداعيا.

في رواية “امرأتان” لريما سعد تذكّر دانيا صديقتها كارا بمشكلتها المزمنة، وهي التماهي مع سليفا بلاث وداليدا، وما راودها من السيناريوهات المستلهمة لنهاية الشخصيتين، وما يشد الانتباه في روايات الكاتبة منصورة عزالدين هو بنية الحلم والإحالات المتتابعة إلى كتاب “تفسير الأحلام” لابن سيرين. وما يومئ إليه ذلك التكرار بأن صوت الكاتبة مهما كان متواريا في طبقات صوتية للشخصيات الروائية فقد يتسرب إلى سطح النص. إجمالا من بين ما تهدف إليه الكتابة هو إعادة صياغة العلاقة مع هذه الشخصيات والعناوين أو استكناه شكل التواصل مع أطيافها الغامضة.

قلق الاستئناف والغواية

يذكر أن مشروع الكتابة أصبح ضمن شبكة المواضيع التي تتناولها الرواية الجديدة، فبطلة رواية “ما وراء الفردوس” سلمى تتابع قراءة “الحب في زمن الكوليرا” بالتزامن مع تحديد خطوط للرواية المستوحاة من سيرة أسرتها، والأهم من ذلك أن سلمى لا تكتفي بترشيح النصوص التي تراها مناسبة للنشر، إنما يعجبها التدخل بالتعديل والصياغة للمواد التي تصل إلى صفحة أسبوعية خاصة بكتابات إبداعية.

ويسع خط السرد للتعبير عن قلق الكتابة. إذ يعلن الراوي العليم بأن المحررة بالصفحة الإبداعية ما إن تبدأ بكتابة روايتها حتى تجد نفسها في مأزق حقيقي، وتلاحظ بأن كلماتها تفقد معناها وتتحول إلى جثث مرصوصة بجوار بعضها البعض. وهذا القلق لا يخلو منه أيضا عالم الروائية الهنغارية أغوتا كريستوف، مشيرة على لسان شخصية رواية “أمس” إلى الاختبار الأصعب وهو الكتابة بغير لغة الأم، كما أن ساندرو الذي يقيم لاجئا في المنفى يريد الاكتفاء بالكتابة داخل رأسه، لأنه حين يشرع بالكتابة فعليا تتناثر الأفكار وتصير الأشياء بغير صورتها الذهنية والسبب وراء ذلك اللغط يعود إلى مكر اللغة حسب رأي السارد.

لا يصح النظر إلى هذا المنحى المتوتر من زاوية مفهوم الميتا سرد فحسب، لأن الصراع مع اللغة والبحث عن الشكل الإبداعي يثير قلق الكاتب وهو يهمه التلويح بما يعتمل في تكوينه النفسي والذهني خلال الزمن الذي يستغرقه تفصيل القماشة الإبداعية. فمن الواضح أن المادة المكتوبة تؤثر على صاحبها قبل أن ينضح تأثيرها في ذهنية القارئ. يقول موريس نادو بأن الرواية التي لا تترك أثرا سواء في الكاتب أم في القارئ ستكون رقما إضافيا في الكمية دون النوعية.

فعلا من سلسلة الروايات التي ينكب عليها القارئ قد لا يتذكر إلا تفاصيل واحدةٍ منها، وبالتالي أشباح شخصياتها الغرائبية لا تغادر أفق تفكيره، وهذا ما تحققه رواية “الحمامة” للألماني باتريك زوسكيند، فإن بطلها الضد جوناثان بيل يكسر جليد الرأس بطبعه الغريب ورغبته للمجهولية والتواري، مما يؤكد بأن هاجس الاختفاء كما الشهرة يلازم المرء، بل يكون مدعاة للجدل أكثر من الحس الاستعراضي.

صحيح أن عدد الشخصيات التي يتعرف عليها القارئ في الروايات قد يفوق نسبة الأشخاص الذين يصادفهم في الواقع، لكن ما يكون بمواصفات جوناثان أو ميرسو أو سعيد مهران أو زوربا دائما حظه أوفر في ذاكرة القراء، بقطع النظر عن التباين في خلفياتهم المعرفية.

لا شك أن الشخصيات الروائية تعكس جانبا من الهموم الفكرية والحياتية التي تقع على مرمى أنظار الروائي. ويعتقد أرنستو ساباتو بأن أيّ كاتبٍ لا يمكنه خلق شخصية أعظم منه. وإذا كانت مستقاة من التاريخ فهي تأخذ الشكل الذي يوافق رؤيته، ويناسب واقعه. أيا يكن الأمر فإن أرضية الكتابة مسكونة بالقلق الناجم من البحث عن آليات الاستئناف. والكاتب الذي ينقطع عن ممارسة المهنة هو يضمر الجنون في أعماق نفسه على حد تعبير سكوت فيتزجيرالد.

تتقاطع آراء معظم المهتمين بالقراءة أن الدافع للاستغراق في هذا العالم هو الشعور بالضجر أو طبعهم الانطوائي، الأمر الذي يعترف به كل من الكاتب الإنجليزي كولن ويلسن والكاتبة التركية إليف شافاك وألبيرتو مورافيا، فالأخير قد أصيب بمرض أقعده الفراش لخمس سنوات قرأ خلالها بنهم في شتى المجالات. وماذا يكون العامل المحرك للتورط في ملعب الكتابة مع ما يصحبها من التوتر؟ وكيف يكون الغرض من الكتابة هو التعافي إذا هي محملة ببذور القلق؟ بالطبع إن الكتابة كما يقول هنري ميللر مثل الحياة تعد رحلة للاستكشاف، وفي ذلك تكمن غوايتها. زيادة على ما سبق فإن التوتر الذي يرافق عملية الكتابة هو من النوع الإيجابي كما أن كل كتاب يقرأه الإنسان هو طريق نحو الكتاب المنشود. كذلك الأمر بالنسبة إلى التأليف فما ينشره الكاتب من أعمال متتابعة هي خطوات تضيّق المسافة بينه وبين العنوان الذي لا يخون روحه الإبداعية، ويمثل تجربته الفكرية ورحلته الحياتية. وينطبق عليه ما يقوله بورخيس بشأن القصيدة العظيمة التي تشعر أنها ألفت نفسها بنفسها دون المؤلف.

إذن قبل أن يكون الموضوع وقفا على الإجابة لسؤال هل الكتابة ضرورية؟ فإن ما يستمد منه المرء الطاقة للاستمرار في مهنته أو هوايته ليس إلا المتعة. جرّب إذا كان مجال الكتابة يعدك بما هو ممتع فابدأ دون الإصغاء إلى الآراء بما فيها الكلام الوارد في سياق هذا المقال. في الواقع إن النشاط الذي لا يعقبه الشعور بالخفة لا يعقل أن يصادر وقتك فالكتابة ليست استثناء في هذه المعادلة يرى مؤلف “غاتسبي العظيم” أن الكتابة ليست سوى عملية يزيل من خلالها المرء جزءا من نفسه ليكون أكثر رشاقة، أكثر عريا، وأقل ثقلا.

*كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي