أحمد عدوية والأسئلة الغائبة

2025-01-11

إبراهيم عبد المجيد *


فجرت وفاة المطرب الشعبي أحمد عدوية في التاسع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، أسئلة كثيرا ما تكون غائبة عن حياتنا الفكرية. أسئلة من نوع كيف يكون الرضا عن الفن، وهل يجب أن يشمل كل الناس؟ ومن أين تأتي نظرة المفكرين الأحادية إلى ما حولهم؟
في البداية أعترف بأني من الجيل الذي لم ير في أحمد عدوية حين ظهوره، جديدا يمكن أن يضاف إلى حياتنا الغنائية. لكني لم أفكر كغيري أن ظهوره يعني صرف الناس عن القضايا الأكبر التي كانت تشغلنا، وهي الخلاص من آثار هزيمة 1967، سواء بحرب الاستنزاف التي كانت جارية، أو بحرب أكتوبر/تشرين الأول والعبور الكبير في ما بعد، خاصة وقد انتشرت أغنيته الأولى « السح الدح امبو» عام 1972 انتشارا مذهلا. كنت مندهشا من الإقبال الفائق على أغنياته في شرائط الكاسيت التي ظهرت في ذلك الوقت. لكنني لم أر في ذلك شيئا من الانشغال أو الإشغال عن حياتنا السياسية، ومن ثم فهي غناء ممنهج كما ظن البعض. رأيت في الإقبال الفائق عليها بحثا عن شيء من الراحة، في عالم تتسع فيه السياسة والمعارضة لما فعله السادات بعد حرب أكتوبر، خاصة سياسة الانفتاح الاقتصادي، التي كانت بداية انقلاب البلاد علي ماضيها في الصناعة والزراعة والتعليم وغيره والحديث فيها طويل.
لم أكن ممن يشغلون أنفسهم بشراء شرائط كاسيت، لكني كنت أسمع بالصدفة أغاني عدوية في المقاهي التي أجلس فيها في الإسكندرية، ولا أفكر أن اسأل أياً من العاملين في المقهى أن يقوم بتغييرها. كانت شهرة عدوية التي ملأت الآفاق الشعبية سببا في الاستعانة به في كثير من الأفلام، مغنيا أو أحد شخصياتها. كان ما عرف بسينما المقاولات، بدأ في مصر في الثمانينيات ولم تنقطع بالمناسبة، إذ تلاها ما يسمي بالسينما النظيفة في التسعينيات، أيْ الخالية من مشاهد الجنس أو الحب الفائق، لكن هذه الأفلام لم تحقق له شهرة أكبر مما حققته أغانيه، رغم شهرته كان يتم ذكر كثير من أبطالها لا هو.
عالم الغناء الشعبي هو من تسيده أحمد عدوية. قيل الكثير عن إعجاب المشاهير مثل عبد الحليم حافظ به حتى إنه غنى أغنيته «السح الدح امبو». لكن عبد الحليم لم يغنها في الإذاعة، بل في لقاء معه في ملهى في فندق الهيلتون، ولا أعتقد أنها كانت أكثر من تحية إعجاب دبلوماسية من عبد الحليم. بدا كأن كبار الموسيقيين والفنانين يخطبون وده للشهرة، لكن هذا لا يمكن أن يكون السبب، لأن شهرتهم فائقة من قبل ومن بعد. الأمر ليس أكثر من مغامرة، ودعم لصوت يقلل من شأنه كثير من مثقفي اليسار بصفة خاصة، ويعتبرونه ظاهرة للإلهاء. بليغ حمدي الذي لحن له مثلا لم يكن تنقصه الشهرة، ولا سيد مكاوي ولا كمال الطويل. هؤلاء كانوا أعمدة الحياة الموسيقية الباهرة. في إحدى المرات وجدت نفسي معجبا بأحمد عدوية حين سمعته صدفة أيضا يغني أغنية «يا زايد في الحلاوة» لمطرب الإسكندرية الذي لا يُنسى عزت عوض الله. بدأت شيئا فشيئا أتعرف على من يحيط بعدوية من موسيقيين مثل عبده داغر وهاني شنودة، ومن ذكرت اسماءهم، وكذلك من حوله من كتاب مثل مأمون الشناوي، وكنت على يقين أنهم لا يبحثون عن شهرة، لكن يبحثون عن الجديد المغامر في ما يقدمون. حين لحن له هاني شنودة أغنية «زحمة يا دنيا زحمة» لم يكن يبحث عن شهرة، بل كان في أوج شهرته بتأسيس فرقة المصريين التي كانت فتحا عظيما في غناء وموسيقى مختلفة.
من أسوأ المحطات في حياة أحمد عدوية كانت الحادثة الشهيرة عام 1989 حين عثر عليه في غرفة بفندق ماريوت فاقدا الوعي، مصابا إصابات كبيرة في جسده. قيل يومها أن أميرا كويتيا قام بتعذيبه وإخصائه، لأنه كان يشك في علاقة بين عدوية وزوجته. بعيدا عن أي حديث شاع، فالحقيقة الوحيدة هي أنه لم يتم إخصاؤه. أكدت زوجته ذلك، وأكده هو في أحاديثهما، وكما نشر الطبيب عماد عتريس مؤخرا، على صفحته في الفيسبوك، كيف كان في زيارة لصديقه الطبيب في المستشفى الذي نقل إليه عدوية وقتها، ورآه بكامل أعضائه.
الحادثة كانت وراء اختفائه عن عالم الغناء الذي عاد إليه بعد عام 2000 ليس بكثافته السابقة، لأن تغيرات كثيرة حدثت في الدنيا ومصر، وظهر فن الشارع واتسع، فصار عدوية شيئا من الماضي رغم قرب السنين. ما حدث من اتساع هذا الفن يعيدني إلى فكرتي التي أريد إبرازها في المقال، أنه لا رؤية واحدة يمكن أن تكون للفن. ما يمكن تسميته بالفن الهابط، يكون محل إدانة فقط حين يقدمه النظام الحاكم على منصاته الخاصة، وعدوية لم يتم تقديمه على منصات النظام الحاكم. هي الملاهي الليلية في شارع محمد علي ثم شارع الهرم التي اختفت الآن، وشركات الكاسيت الخاصة التي انتشرت وقتها. إذن عدوية لم تقدمه الدولة أصلا، لا للإلهاء ولا لقناعتها بطربه، لكن انشغال المثقفين بالأحداث السياسية كان وراء رؤيتهم لعدوية، ومن ثم رفض الكثيرين لأغانيه.
شغلتني الحياة عن الاهتمام بالاستماع إليه، أنا المغرم بالبرنامج الموسيقي استمع فيه إلى الطرب العربي والموسيقى الكلاسيكية، ولم أكن من هواة شرائط الكاسيت، أول شرائط كاسيت اشتريتها في حياتي كانت في آخر السبعينيات لفيروز، وطبعا لمن هم في السفينة نفسها مثل، عبد الحليم وأم كلثوم وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وغيرهم من أساطير الغناء. رغم ذلك اعترف بأنه في كثير من أغاني أحمد عدوية معان رائعة. فعلى سبيل المثال في أغنية «زحمة يا دنيا زحمة» تسمع:
زحمة يا دنيا زحمة… زحمة وتاهو الحبايب
زحمه ولا عادشي رحمه… مولد وصاحبه غايب
آجى من هنا زحمه … واروح هنا زحمه
حتى يقول:
زحمه وانا رايح له … وانا وسط الزحام
عايز يسمع وأقول له … ما بيوصلشي الكلام
بيني وبينه ميعاد … وهيروح الميعاد
آجي من هنا زحمه..
واروح هنا زحمه..
هنا أو هنا زحمه..
ببساطة يمكن أن تدرك أنه لا يعني زحام الطريق، بل زحام الحياة. فهل لو كان عبد الحليم هو الذي غناها كان الموقف لكثير من المثقفين منها سيكون كما هو مع عدوية؟ بالطبع كان سيختلف. لم يكن موقف كثير من المثقفين كما أوضحت، معبرا عن نظام الحكم الذي لم يفتح الإذاعة لعدوية، بل كان أكثرهم معارضا لهذا الحكم، لكنهم طبعا كانوا يتوقون إلى ألا ينشغل الناس عن نضالهم. كان الشيخ إمام ومعه أحمد فؤاد نجم، وكوكبة رائعة من الشعراء مثل، زين العابدين فؤاد ومحمد سيف وفؤاد قاعود ونجيب شهاب الدين هم ملاذ المثقفين. كذلك عدلي فخري وشاعر مثل سمير عبد الباقي اللذين كانا وجها آخر للنضال.
بعد وفاة أحمد عدوية قرأت للكثيرين من الأعمار الأقل مني من الصحافيين والكتاب، كيف كانوا يقدرون أحمد عدوية. وطبعا لديهم الحق، فحين ظهر أحمد عدوية الذي انتشرت أول أغانيه سنة 1972 لم يكونوا قد ولدوا بعد. وحتى إدراكهم لمعارك المثقفين السياسية وقتها في سنوات حكم السادات، هو إدراك من الكتب وليس الخبرة الشخصية. في النهاية يمكن وضع ظاهرة أحمد عدوية في مكانها بعيدا عن السياسة والفكر المسبق، الذي هو آفة كل فكر، وهي أنها نوع من الغناء الشعبي وجد فضاء كبيرا بين الناس العاديين الحائرين في مشاكل البلاد السياسية والاجتماعية، يبحثون عن لحظات من الراحة والاسترخاء. ولم يكن أبدا ظاهرة مفتعلة من النظام الحاكم للإلهاء. وهذا ما يحدث الآن من الاحتفاء بما يعرف بفن الشارع الذي لا يتقبله كثير من المثقفين.


*كاتب وروائي مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي