سعيد خطيبي
بدأ القرن الحادي والعشرين بمشهد جريمة. طائرتان جرى اختطافهما وتحويلهما إلى برجي التجارة في نيويورك. مشهد مروع دارت وقائعه في 11 سبتمبر 2001. ولم يفتأ الحال أن انفجر في أكثر من مكان.
بينما السنوات الأولى من القرن العشرين أطلق عليها «الحقبة الجميلة»، شهدت استقراراً وأمناً وتطوراً، في أوروبا وأمريكا، واستمرت كذلك إلى غاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، بينما شهدت السنوات الأولى من القرن الحالي ما لا يقل عن عشر حروب، في ثلاث قارات، فنحن نعيش على النقيض مما عاش الناس في القرن المنصرم.
نحن نحيا في عالم من الهشاشة، عالم يتداعى، صار فيه العنف أمراً مبتذلاً، بل يجري تبريره بالقانون في بعض المرات. فالحروب تندلع إثر أسباب غير معلومة. ونشوب حرب بات أسهل مما نتوقع. تحولت الحرب إلى لعبة والضحايا إلى أرقام.
ماذا يفعل كاتب في هذه الأجواء؟ لاسيما كاتب من العالم العربي وهو يرى النيران من حوله؟ وهو يعلم أن لا سلطان له في موازين الأمم! لم تعد الكتابة مغامرة شخصية، في الانطواء على الذات والإسراف في الحميميات، لأن ما يدور من حولنا يجعل الكاتب متورطاً في ما يجري. صارت العزلة من الكماليات، نرغب فيها من غير أن يتاح لنا بلوغها. وإن فكر كاتب بأن ينأى بنفسه، فالأمر ليس هيناً، لأن العنف لا يبالي بحدود ولا يفرق بين الناس. فنحن نعيش في جغرافيا ومتورطون في جغرافيات أخرى، نعيش في زمن مفتوح على المعلومة، وتتداخل فيه الآراء. لم يعد الانعزال سوى حلم من زمن بعيد. إن الكتابة ليست معنية ـ بالضرورة ـ بالحال التي نحيا فيها، فالكاتب ليس وكالة أنباء، لكنه معني بالمصائب التي تحرم الآخرين من حقهم في العيش، يهمه ما يقاسيه الإنسان الجديد من عنف، وما يتحمله من دماء تسيل، ما يجعل منه ضحية، رغم محاولاته في النأي بنفسه.
لم يعد ممكناً أن ندنو من الكتابة من غير أن نطل برأسنا، إلى الخارج، ونطالع ما يجري من حولنا. هذه الأجواء الدامية، التي ترافقنا منذ مطلع القرن، تحتمل عودة إلى أدب الجريمة، أن يمنح الكاتب للضحية صوتاً، ويتيح لها الحق في الدفاع عن نفسها، وقول ما حجبته عنها آلة العنف. في هذه الظروف يصير الأدب معنياً بالضحايا لا الأبطال، في نبش خراب العالم، بحثاً عن أولئك الذين حرموا من الإدلاء بقصتهم، أو إبداء رأي لهم. يصير الأدب معنياً بانكسارات الإنسان لا انتصاراته، يحكي عن خطورة العيش، حيث لم يعد أحد آمنا في موقعه. وما يحصل في مكان بعيد، فلا مفر من تحمل تبعاته. بات الأدب معنياً بطرح الأسئلة التي عجز عنها غيره، في مناقشة الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من تمزقات.
بعدما تصدر أدب الجريمة المشهد، في الغرب، عقب الحرب العالمية الأولى، وتكرس على إثر تلك الحرب وما شهدته من رعب ودم، فقد صار هذا الأدب مسألة عربية كذلك، ويحق له أن يلعب دوراً في مواجهة نهر الآلام، ومقاربة الأسئلة الشائكة عن حالنا وما نتكبده من محن ومآزق. لا يوجد نص أثر في الكتابة العربية أكثر من «ألف ليلة وليلة»، فهو الأرض التي تستقيم عليها السردية العربية، وإذا تفحصنا هذا النص فهو ينتمي إلى أدب الجريمة، في قصة الملك شهريار، الذي يتحول إلى قاتل متسلسل، يطارد أرواح النساء، قبل أن تنجو منه شهرزاد وتعيده إلى رشده، ولكن قبل أن تصل إلى مبتغاها، فإنها تخوض في حكايات تتقاطع مع أدب الجريمة كذلك، قصص لم تخلُ من موت وضحايا ودم وغدر وتحريات ومساءلات، وابتكار للشخصيات وتعدد في الأصوات.
بالتالي فإن الأدب العربي ليس وافداً إلى أدب الجريمة، بل له سبق التأسيس، و«ألف ليلة وليلة» شاهد، ولا يزال نصاً معاصراً بامتياز، يتجاوز الحقبة التي ظهر فيها. من جهته، لم يتنكر نجيب محفوظ لأدب الجريمة، وأصدر «اللص والكلاب» (1961)، التي دشنت مرحلة جديدة في مغامرته الكتابية، وهي رواية تنطوي على جميع عناصر أدب الجريمة، من قتل، سجن، وتصعيد سردي وإثارة. رواية من شأنها أن تعبر عن القلق الإنساني إزاء مصيره المعتم. في هذه الرواية، لم يتخل محفوظ عن شغفه في كتابة واقعية، وتلك واحدة من خصائص أدب الجريمة، الذي يستمد تاريخاً له من واقعية زولا وبلزاك، كما يستمد أسلوباً له من الرواية القوطية، حيث يسود الغموض والبحث والتحري، قبل الوصول إلى نهايات تشبه نهايات المعادلة الرياضية. مع ذلك، فإن أدب الجريمة ليست لعبة تجمع بين كاتب وقارئ، كما يسود الاعتقاد، بل هي منازلة ضد قضايا فلسفية، ومغامرة لغوية تتيحها العربية، هي بحث وتقصٍ عن الإنسان في حالاته الشائكة، هي نقد في شؤون التاريخ والمجتمع والسياسة، وليست مجرد جانٍ ومجنٍ عليه، فهذان الأخيران ليسا سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد.
لم يكن نجيب محفوظ وحده من خاض في أدب الجريمة، بل كذلك أسماء عربية أخرى مكرسة، وعندما نلقي نظرة على كتابات الآخرين، سوف نجد أن هذا النوع من الكتابة متجذراً في أعمال كتاب معروفين، على غرار ماريو فارغاس يوسا، الذي كتب «من قتل بالومينو موليرو» أو أولغا وتوكارتشوك، التي كتبت «جر محراثك فوق عظام الموتى». كما إن هذا النوع من الأدب صار خزاناً للسينما، وتدين له السينما بالكثير، فماذا يمنع أن يبسط مكانة له في المكتبات العربية؟
في العالم العربي، أصابتنا حساسية تجاه الروايات الأكثر انتشاراً، نقلل من قيمتها ونظن أنها أعمال سيئة. لكن عندما يتحول فيلم إلى ظاهرة منتشرة فنحن نصفق للممثل والمخرج والمصور، ونبارك نتاجهم. بالتالي فنحن في حاجة إلى إعادة تعريف علاقتنا مع هذا الأدب، لأن المتفق عليه أن الكتب الجيدة، التي تأتينا من لغات أخرى، إنما هي روايات ـ في جلها ـ من أدب الجريمة.
إن الحاجة إلى أدب الجريمة هي حاجة إلى تدارك التمزقات التي يحيا فيها الإنسان، منذ مطلع القرن الجديد. في إصلاح الخلل الذي أودى إلى تنامي العنف. في فهم الحالات النفسية للأشخاص الذي يعيشون وسط النيران. إن أدب الجريمة يعيد للضحية صوتها وإنسانيتها.