سليمان حاج إبراهيم
في روايته الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي، يسافر الكاتب أحمد سيدي بقارئ روايته «الذيب» نحو البيداء المغاربية في أوسع امتداداتها، واقفاً على سكون الصحراء الشنقيطية المترامية الأطراف، حيث يعانق الأفق التلال والآكام، ويغوص في ثناياها، ويستمع لرجع صدى أنات المستضعفين وهمسات العاشقين وتمتمات الخائنين ومكائد المستعمرين. جمعت رواية أحمد سيدي وهو من جيل الأدباء الروائيين الذين خالفوا سمة أهل شنقيط، أنهم بالشعر وللشعر ينتمون، مبدعاً نصاً يستكشف أساليب سردية من نوع السهل الممتنع، ونجح في تجسيد مشاعر الخوف والشجاعة والعنصرية، من خلال التركيز على أربعة مواضيع أساسية، هي: اللغة والتخييل والوصف ومكانة المرأة. وحينما نتحدث عن المرأة في موريتانيا، تكون الصورة واضحة عن قوة شخصيتها، وجمالها، واستقلاليتها بعيداً عن الصور النمطية عنها في مناطق أخرى.
لم تكن رواية «الذيب»، مجرد قصة تسرد الواقع الاجتماعي والسياسي في موريتانيا مطلع القرن العشرين، بل هي مرآة تعكس قسوة الطبيعة وجمالها في آن واحد، وتعيد تشكيل العلاقة المعقدة بين الإنسان وبيئته، وتحديداً مع الحيوان، وتنتقل بسلاسة بين الصياد والفريسة. إنها رحلة مليئة بالرموز والدلالات، حيث تتحول الصحراء إلى مسرحٍ يفيض بالتوتر والأسئلة الوجودية، وتتبدل مشاهدها بين الملاحم البطولية واللحظات الطافحة بالصدق والإنسانية.
امتازت الرواية ببراعة أسلوبها وشعرية لغتها وقدرتها على تصوير الطبيعة والمشاعر بكلمات بسيطة غنية بالصور الأدبية، حيث تتحول الكلمات إلى لوحات ضاجة نابضة بالحياة. كل ذلك بأسلوب يتسم بالسلاسة والتكثيف، ويجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الأحداث بكل تفاصيلها، يلمس حبات الرمل، وتداعبه نسائم المحيط الأطلسي الباردة.
تأسر القارئ لغة «الذيب»، بموسيقيتها الداخلية، وتخلق جواً من السحر والترقب، حيث تصبح كل جملة، مشهداً صغيراً من لوحة أوسع تتشكل أمام القراء. هذا الإيقاع اللغوي يمتزج مع الرمزية العميقة المتمثلة في الإحالات وأسماء القبائل والأفراد. ومع توالي فصول الرواية يخيل للقارئ أنه يعيش جواً شبيهاً بالمرابطين ومنطلقهم، ومهد جموعهم، وإرثهم الذي يعتز به ساكنة بلاد شنقيط. ومع توالي أسماء قبائل مثل أولاد الجعبة، وأولاد لمدك واسم الأمير ازناد وابن أخيه الفردي، تتوظف أمام القارئ أجزاء معينة من البندقية، التي ترمز إلى فئة من فئات المجتمع الموريتاني، وهي فئة العرب المحاربة، التي تعد البندقية جزءاً أساسياً من حياتها. وأسماء مثل أدواي ولمرابط والطالب، تحيل إلى الدواة وتعلم العلم وتعليمه.. وهي صفات ثابتة من صفات قبائل الزوايا المتعلمين. وكذلك اسم الخايب والحسن ولد العصبة، وغيرها من المسميات والرموز والصور الشعرية التي جعلت من هذه الرواية تجربة أدبية تستدعي التأمل والانغماس في عوالم إبداعها المتعددة.
تمكن الكاتب بتوظيفه للغة آسرة
من خلال وصفه المعارك والمشاهد البطولية، تمكن الكاتب من إضفاء طابع ملحمي على النص، حيث برز جليا سعي أحمد سيدي لتمجيد قيم معينة مثل البطولة والفروسية والإباء والتعلم، مقابل الظلم والاستعمار والطبقية. ويشكل «التخييل» في رواية «الذيب» عنصراً جوهرياً في بناء عالمها السردي، حيث نسج المؤلف عالماً يمزج بين الواقع والأسطورة، ويستدعي في خيال القارئ صوراً تجمع بين الحقيقة والتصورات الرمزية. التخييل هنا لا يقتصر على تصوير الحيوان ككائن حي، بل يتعداه ليمنحه شخصية ومشاعر تجعله مشاركاً فعلياً في الأحداث، ليصبح الذيب رمزاً للقوة والدهاء والصراع، وتصبح الفرس الأسطورية «لمليسة» التي انتزعها لعبار من يد أمير أولاد لمدك، ليهبها للخايب في نهاية الرواية.. إن هذه الفرس ترمز للقوة والاستقلالية والشرف، وارتباط الخايب بها يعكس بحثه عن مكانته الخاصة داخل المجتمع، وسعيه إلى التحرر من القيود الاجتماعية التي تصر على إبقائه في أدنى سلم المجتمع، رغم مكانته العلمية والبطولية. وإلى جانب رمزية الحيوان، تقدم رواية «الذيب» عناصر تخييلية أخرى، تسهم في إثراء عالمها السردي، حيث يعمل الكاتب على تصوير العوالم الداخلية للشخصيات، وينسج مشاهد نفسية عميقة، لتختلط الأزمنة في بعض الأحيان ويشتبك الواقعي بالمتخيل، فنجد شخصيات خيالية إلى جانب أشخاص واقعيين مثل: العالم الشنقيطي الجليل محمد محمود ولد اتلاميد، والعالمة الشنقيطية المتبحرة في علوم اللغة والمنطق خديجة بنت العاقل، وبطل المقاومة الشهيد بكار ولد اسويد أحمد، والبطل الشهير ولد امسيكة، الذي لم يسمه الكاتب باسمه، ولكنه أدخله إلى خيمة أم العيل ليلتقي بالخايب في لحظة من لحظات التوتر القوية في الرواية ومشهد كاد يخرج عن السيطرة.
كما أكدت الرواية على مكانة المرأة، التي تتجلى كعنصر محوري في السرد، حيث تظهر رمزا للقوة والجمال في شخصية العزة، التي لم تكن لتقبل فكرة زواج لعبار من امرأة أخرى مهما كلف الأمر، وتظهر المرأة رمزا للعلم والثورة على العادات البائدة والصور النمطية، في شخصية أم العيل العالمة العاملة التي تحدت قبيلتها، حين بدأت بتعليم أمَتها أصول الدين ومبادئ العلوم الشرعية، وتحدت المستعمر، حين وقفت ضده وأفتت بوجوب الجهاد، رداً على الفتاوى التي أصدرها بعض المتمالئين مع الغزاة من أبناء المجتمع. ويبرز دور المرأة كذلك في شخصية مريم ابنة الأمير أزناد، التي كان دورها محورياً في محطة مهمة من تاريخ الإمارة، ومع ذلك لم تكن تستطيع أن تبوح بحبها لأحد، فالعادات الاجتماعية الموريتانية تستهجن تصريح المرأة باسم ولدها وزوجها.. فكيف تستطيع مريم أن تصرح بحبها للذيب الذي ملك قلبها واستبد بتفكيرها.
ويبرز دور المرأة ومكانتها في مشاركتها في الحرب والدفاع عن القبيلة، حيث شاركت جميع النساء في صد هجوم أولاد لمدك على قبيلة أولاد الجعبة، وكن مستعدات لخوض معركة حاسمة يوم اقتحم الفرنسيون وحلفاؤهم خيمة الأمير.
يقف القارئ أمام جماليات الوصف في رواية «الذيب»؛ حيث تتجلى براعة الكاتب في التقاط تفاصيل الصحراء والطبيعة بأسلوب يحول المشاهد إلى لوحات فنية نابضة بالألوان والظلال. لا يقتصر الوصف في الرواية على نقل الصورة البصرية فحسب، بل يمتد ليشمل الحواس الأخرى، مما يجعل القارئ يشعر بحرارة الشمس، وبرودة الليل، وصوت الرياح وهي تعصف بين الكثبان الرملية. هذه الجمالية تساهم في خلق جوٍ من الانغماس الكامل في البيئة الصحراوية، وتضفي على الرواية بعدًا حسياً يجعل القارئ يعيش التجربة بكامل تفاصيلها، وكأنه يسير بين الرمال ويتنفس هواء الصحراء بنفسه.
عند إتمام قراءة رواية «الذيب»، يجد القارئ عملاً أدبياً يجمع بين الأسلوب اللغوي العميق والمعالجة الفلسفية والإنسانية لموضوع الصراع بين الخير والشر. وقد حازت الرواية جائزة الشارقة للإبداع العربي، مما يعكس تميز الكاتب الشاب أحمد سيدي وتوجهه الواعد في المشهد الأدبي العربي والدولي.