خمس حكايات من الدار البيضاء

2024-11-14

 الدار البيضاء (مواقع التواصل)فاروق يوسف*

 

حكاية غرناطتي غرناطة
«إلى عاصم الباشا»

«أنت جاري» قال لي. لم أفهم. «لوركا جاري» لم أفهم. «غرناطة كلها جارتي وأنا أعيش فيها» حينها فهمت مأساته. يقول بسخرية «إنني ولدت قبل إسرائيل بشهرين» ولكنه وُلد من أجل أن يقوى الخير. يمكنه أن يكون شاعرا في كل لحظة. وهو نحات يتعامل مع النحت باعتباره لغة. لا أكتب الآن من أجله، بل من أجل ظاهرته. عاصم الباشا ظاهرة نادرة. لن يقوى أحد على مقاومة التأثر بجنون الإبداع الذي تنطوي عليه تلك الظاهرة. جملة واحدة منه تجعلك تعيد النظر بما تعلمته من نظريات جمالية جاهزة. رجل حياة يعيش على مركب يجتاز به المحيط كل ليلة ليعيش مع الساحرات. إنه يتعلم لكي يُعلم. وهو يحب كما لو أنه لم يحب من قبل. إنه يحبك باعتبارك الكائن الأول الذي أحبه. وفي المقابل فإنه يحب النحت باعتباره حلا لسؤال الحياة. «لمَ لا تكون تماثيلي تشبهني؟» تساءل بعد أن تذكر تمثال بلزاك لرودان في باريس. بلزاك المسافر في الريح بعباءة عربية. عليك أن تصدق أن للمنحوتات أرواحا حين يحلق الباشا بإلهامه. كل ما نراه هو صورة للروح وليس الجسد إلا مناسبة للاحتفال. حفلته مستمرة، فيما حزنه يضرب مثل مطرقة شجرة سنديان. ما لم يقع اختياره عليك لن تنفع جملة «خذني معك» في تليين قلبه. رجل يقيم في عزلته التي هي بقايا عصور حريته السعيدة. سيتذكر دائما أنني كنت ذكرته في لحظة هيام بلوركا جاره الأبدي.

حكاية الجمال قليل
«إلى نوري الجراح»

وأنت حزين لا تفكر بشرب القهوة فيما تمتلئ حنجرتك بكلمات غامضة. تلك كلمات لا تجد لها معنى في المعجم. لقد قالها الآخرون غير أنهم فقدوا الطريق إليها في الغابة تحت المطر. صار عليك أن تشيد جسورا من الزهور المائية لتصل وحيدا إلى جزيرتك. لا أعتقد أنك تغمض عينيك حين تحلم. لطالما رأيت دموعا في عينيك فظننت أنك ابقيتها من ليل الأمس، لكي لا تنسى أنك بكيت كثيرا مثل طفل أضاع أثر أمه في محطة قطارات. لو لم تكن حزينا إلى درجة البكاء الصامت لما كتبت الشعر. غالبا ما أكلمك لكي أسمع صوتي مقبلا من جزيرتك. نحن نلهو بالجمال الذي يعذبنا. لقد صار علينا أن نرمم الشقاء كما لو أنه صحن صيني. عيب الجمال أنه لا يؤكل. ترى أن الكتابة هي الحل. أنا مثلك أخدم في الضواحي نفسها. غير أن ما يميزك عني أنك لا تزال تقف في انتظار أن تفتح ضربة طبل باب قلعة تسكنها الأشباح لتقول لي بعدها، «انظر ما الذي يفعله الشعر»، ولكن الشعر الذي تكتبه لتتذكر صار يلهمك النسيان فمحيت الجدران القديمة وانفتحت الحدائق أمام رجل ليس لديه طعام للعصافير سوى الشعر. لقد صرنا نقترب من بعضنا مرة أخرى. لا تطيق الجلوس على ضفة بحيرة فيما يلهمك مشهدي وأنا أصيد السمك شيئا من الصبر. إنها حكاية شاعر يخشى أن يتركه النسيان وحيدا.

حكاية صورة من أجل المحيط
«إلى مُنية بو طالب»

ما من خطى لتمحوها المياه. القوارب بعيدة، فيما يفكر الصيادون في أشكال أسماك لم يروها من قبل. «للرسم معجزات صغيرة، غير أنها تدير الرأس عن الحقيقة»، لمَا لا نمحو مثلما تفعل المياه بدلا من أن نثقل ضمائرنا بكائنات تقاسمنا هواء قد لا يكفي؟ كان النظر إلى المحيط وحده تجربة فكيف إذا فكرت في رسمه. تحاشيت التفكيرفي وليام تيرنر من أجل أن لا تغمرني الرائحة. تلك طريقة صيفية في الإيقاع بالحقول النضرة. كان الانطباعيون قد اخترعوا دروبهم وسط الغابة لكي يصلوا إلى الغيم. نحن أخف من أن نضع أقدامنا على أقدامهم. فالطيور التي تحملنا على أجنحتها تتنقل بين أعالي الشجر. ربما التقطت صورة أخرى لكي لا أكون وحيدا مع المحيط. البحر هذه المرة لا يضمن سفرا مريحا. سينضم الوقت سريعا إلى الماضي. ماضينا وماضيه ويمحو خطانا من أجل أن يكون لضحكته معنى. «لم أرسم المحيط» قالت مُنية بو طالب «وأنا أعيش قريبا منه». تعرف أنها رسمت رغبته في أن يمحو خطى العابرين وقلدته، كما لو أنها ابنته التي لم تقرر العودة إليه. كنا نُمحى في لحظة رسم لكي لا نستسلم للمحيط وهو عدونا. اما الصورة فإنها لن تبقى طويلا. الصورة طوتنا حين حررتنا من ماضيها. رسمت مُنية الحقول النضرة وكانت تنصت إلى ضحكة المحيط، كما لو أنها تنبعث من فم مسافر.

حكاية الأحد
«إلى عبد العزيز جدير»

اليوم هو الأحد. الباعة قليلون في سوق المدينة القديمة. الصمت أكثر ونوافذ البيوت لا تزال مغلقة. كنت في حاجة إلى أن لا أسمع إيقاع خطواتي. كان هناك مَن يتبعني ولا أرغب في أن التفت إليه لكي لا يشعر بأنني خائف منه. ربما كان الوقت مبكرا للبحث عن مشهد بصري، سيلهمني في ما بعد فكرة محتملة عن حياة كاملة عشتها هناك. لقد جئت من أجل أن أكون هناك. وذلك الرجل الذي يتبعني يعرف جيدا أننا معا، أنا وهو نعمل على تشكيل ذلك المشهد. إننا نرسم مكانا لا يقبل أن يضيق لأنه وجد من أجل أن يتسع. ولأننا لم نشأ الوصول فقد بقينا نمشي من غير أن نغادر. لم نكن سجناء فكرة طارئة ولم نخطط للقيام بالشيء عينه لكي نكون متشابهين. كنا نمشي فقط. رجلان يمشيان، وجدا أن أحدهما يتبع الآخر، فيما يعمل الآخر على رسم خرائط الرحلة بين أزقة لا تزال نائمة. ربما تساءل الرجل الذي يتبعني وهو يفكر في نهاية مريحة لرحلته «إلى أين يأخذني ذلك الغريب؟» وكنت أشعر بمتعة أنني أوقعته في مكيدتي وأغويته بما لم يتمكن من الافلات منه. ليس في إمكانه أن يعود بعد أن وقع ضحية لحظة غامضة خيل إليه أنه بطلها ليتحول في ما بعد إلى ضحية لها. لم يكن عليّ أن أقع في التبسيط. غير أن اليوم هو الأحد، ولا تزال النوافذ مغلقة والباعة في السوق القديمة قليلين، وما من شيء يفعله المرء سوى أن يحلم برجل يتبعه في مدينة تقع هناك.

حكاية البلاد كلها حديقة
«إلى عبد الرحمن بسيسو»

ينزلق على ركبتها العطر. ركبتها خضراء فيما يتشبه العطر بالمطر. كان عليّ أن أبكي أولا، لأن الحديقة خضراء والرصيف بارد وأنا أنظر إلى عينيها اللتين صارتا أشبه بمرآتين، كنت أرى من خلالهما زهور كلود مونيه المائيه. لم تكن في حقيقتها امرأة. كانت قطة. ولم أكن في حقيقتي رجلا. كنت غيمة. عليك أن تصدق أن القطة خدشت الغيمة من أجل أن تحصل على قطرة واحدة من المطر. قطرة واحدة لا غير. الأمر أشبه بالفضيحة. كيف لقطة وغيمة أن يجتمعا في مكان واحد هو حديقة عامة في مدينة تعج بالقطط والغيوم غير أن الاثنين لا يملكان لغة مشتركة. «البلاد كلها حديقة» كنت أقول لنفسي، فيما كانت تلك القطة تنظر إلى السماء وتقول لنفسها «الغيوم كائنات ضالة وهذه الغيمة التي بين يديّ ليست استثناء»، لقد حل نعيم القطط وجحيم الغيوم يومها. لن يفكر أحد بالمؤامرة بطريقة مختلفة. كنا متآمرين من أجل لحظة حب. هي لحظة عابرة. كل لحظة حب هي زمن عابر. «ستنسى» «ستنسين» الصوتان يتقاطعان والحديقة تضحك. العشب الأخضر لا يصلح سريرا، أما الرصيف فإنه فكرة تشرد وأنا تركت حقائبي في مطار لا أتذكر أين يقع. أخبرتها أنني رجل منذور للتشرد. أنا مشرد منذ عقود. ابتسمت القطة والتفت إلى الأزقة الضيقة وقالت «من هناك لن تحلق الطائرات ولا تمر الغيوم»، كان وطني مطارا في ما كان وطنها زقاقا ضيقا. كان عليّ أن أسبقها إلى البكاء غير أن حواسي خذلتني حين نسبت عينيها إلى امرأة جميلة وأنكرت القطة الهائمة.


*كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي