حيدر جمعة العابدي*
يأخذنا شكل الصراع السياسي في روايات علي لفتة سعيد إلى عمق الأحداث التي ترسّبت في الذاكرة العراقية ودهاليزها. أحداثٌ رسمت طبيعة خريطة التحولات السياسية، الاجتماعية والنفسية التي ستشكّل في ما بعد خريطة الصراع السياسي والثقافي في العراق وطبيعته. صراعٌ رسم صورة المجتمع الذي سيكون عليه، صراعٌ يتجذّر في ذاكرتنا المكتنزة بكمّ كبير من المواجع وخيبات الأمل من أشكال الحياة، التي صيّرها هذا الصراع صورا فجائعية صرنا نتوارثها يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل، من الآباء إلى الأبناء وأبناء الأبناء.
صراعٌ أخذ أبعادا وصورا ودلالات وتحولات بأشكال متعددة، أبرزها وأكثرها حضورا ووضوحا هو الصراع السياسي، الثقافي، والمذهبي، الذي أنتج لنا واقعا عنيفا صداميا يزخر بالعنف والعنف المضاد. هذا الصراع أفرز هويات ذات عصبيات عرقية ودينية وثقافية مصابة بوهم التقديس الأعمى لمدوّناتها التاريخية ومقولاتها التبشيرية بالخلاص وتحقيق النصر على الأعداء، لا لشيء إلا لتحقيق دولة الحق الإلهي المزعوم واستعادة إرث الآباء الذين وُعدوا به كحقٍّ تاريخي مسلوب.
تعد رواية علي لفتة سعيد «تاريخ المرايا»، الصادرة عن دار العوض الجزائرية للطباعة والنشر في طبعتها الأولى لعام 2024، والفائزة بجائزة الرواية العربية في مصر، من الروايات التي تتناول شكل الصراع السياسي وتجلياته، وفق محورين مركزيين. الأول عموديٌّ متواتر كالصراع السياسي الديني والمذهبي، والثاني أفقيّ كالصراع النفسي الذاتي للشخصية مع واقعها، والاجتماعي والثقافي كعلاقة الشخصيات بعضها مع بعض كواقع مفروض عليها.
يبدأ هذا الصراع من العتبة الأولى، العنوان «تاريخ المرايا»، بما يشير له العنوان باتجاه ما تعكسه صورة التاريخ النفسية والثقافية وتاريخية عن أنفسنا، مرتبطا بدلالة التاريخ. مرايا تعكس صور ماضينا لتشكّل حاضرنا، كيف كنا وكيف نبدو الآن، وماذا نريد أن نكون، ليضعنا الكاتب، بحرفية، داخل سيرورة لا متناهية من الصراعات الوجودية العميقة مع أنفسنا ومع غيرنا. صراع يتجلّى في كيفية انعكاس هذه المرايا على واقعنا وأنفسنا وما تشكّله لنا من ملاذ ثقافي ونفسي نطمئن له.
زمن الأحداث زمن واقعي متسلسل تاريخيا بنوعية الأحداث المهمة والكبيرة، لذا كان زمن تطور الأحداث هو تاريخ حدوثها بالأرقام 1985-2014. وهو زمن يبدأ بالحرب العراقية الإيرانية، وينتهي بما بعد احتلال العراق من القوات الأمريكية وتداعياته السياسية والاجتماعية.
تدور أحداث الرواية حول عائلتين تنتميان لمذاهب دينية مختلفة تتعايشان منذ عقود في مدينة صغيرة، الأبوان يعملان في مهنة بناء الدور السكنية. الأول له ابن اسمه «جامد»، والآخر له ابن اسمه «مسعود»، سيعملان بعد الحرب بمهنة أبويهما نفسها. يتزوج «جامد» أخت «مسعود»، وبالعكس بالنسبة لـ»مسعود» سيتزوج أخت «جامد». تتصاعد الأحداث بالكيفية نفسها التي ارتبطت بتحول سياسي مهم. الحرب العراقية الإيرانية التي اتسمت سياسيا بالصراع العربي الفارسي والشحن العاطفي المذهبي، واحتلال الكويت الذي اتسم سياسيا ونفسيا بالصراع على النفوذ داخل المنطقة العربية. حرب الخليج الأولى والثانية، التي اتسمت بعودة النفوذ السياسي العالمي للوصاية على العراق، ثم سقوط بغداد على يد الأمريكيين ونهاية عهد الديكتاتور.
اعتمد الكاتب على شخصيات وأسماء شخصيات ذات دلالة سيميائية (علامة) تشير دائما إلى نوع الصراع الثقافي والسياسي في العراق وإلى أي مدى كان متجذّرا في لا وعينا الجمعي كواقع ومتخيل. فـ»جامد» الذي يمثل مذهبا معينا، أراد والده أن يسميه «حامد» بعد أن وضع كاتب هوية الأحوال المدنية نقطة تحت الحاء بالخطأ وضحك وفسّر الأمر أنه ولد بلا بكاء. وعندما انتبه الأب، قرر ترك الاسم كما هو دلالة على جمود الأعصاب والمشاعر وضبط النفس: «قلت لا، بقيه جامدا.. لعل الله يبقي حياته جامدة». أما شخصية «مسعود»، الذي ينتمي هو الآخر لمذهب معين، أراد والده أن يدل اسمه على السعادة والرضا، ليكون سعيدا في حياته، تيمنا بأصوله النجدية. كذلك نجد شخصية «طارق» الصابئي، الذي كان يشتغل بمهنة بيع الذهب التي توارثها عن أجداده، و»مصدام» الذي سيكون الشخصية المحورية في الصراع الدائر. هو الشاعر المثقف المتمرد الذي يرفض كل أنواع الخنوع والاضطهاد من قبل السلطة، والذي كان يتهمه أحد الضباط بأنه أضاف إلى بداية اسمه حرف الميم كي لا يكون اسم رئيس الدولة نفسه آنذاك. وعندما سئل والده عن سبب هذه التسمية، برّر ذلك حين كان ولدا كان يصطدم بكل شيء أمامه، حتى القابلة لم تستطع الإمساك به. كان عنيفا وكثير الحركة والمشاكسة في طفولته.
ولو عدنا لصورة هذا الصراع التي تتبّعنا في تحوّلاتها من خلال شخصية «مصدام»، وما تمثّله دلالة الاسم والانتماء الفكري المثقف، سنجد أننا أمام شخصية غير معنية بالحرب، من سينتصر أو يُهزم، ومن الفرقة الناجية أو المحترقة التي سينصرها الله على الأخرى. كونها شخصية تقف بالضد من كل أشكال الحروب، لأنها حرب ضد الإنسان أولا، وضد الحياة ثانيا، بما تحمله من تعدد وتنوع واختلاف طبيعي. وهو ما صوّره لنا الراوي العليم في أول دخولنا إلى المتن: «لم يصل بعد إلى مبتغاه، كما يصل الناس إلى مبتغاهم، سواء بتخطيط أو بعفوية، كان يحدق في الطرقات، يبحث عن أشياء لا يدري أيحتاجها أم لا، هي مجرد بحث حتى لا يتيه، لا يخالط أحدا رغم الجموع التي تحيطه… ربما كل ذلك بسبب الحرب».
تكتمل صورة هذا الصراع من خلال شخصية «جامد» و»مسعود»، اللتين تعكسان شخصية «مصدام» وعكس سير الأحداث. فهما شخصيتان تحاولان تجنب كل أشكال هذا الصراع، مع الأخذ بعين الاعتبار شروط هذا الصراع والواجبات المنوطة بهما تجاه علاقتهما العائلية وعلاقتهما بالمجتمع من حولهما، مع من ستكون السلطة، ربما خوفا منها ومن بطشها. فكان دورهما المعلن عدم الصدام معها أو الوقوف ضد قراراتها رغم الظلم السياسي المستشري، ورغم الاختلاف في انتماءاتهما المذهبية. وبالتالي، عندما كان الصراع مع إيران، كان أبو مسعود وعائلته الأقرب إلى مذهب السلطة، وكان والد مسعود هو رئيس العمل و»جامد» مساعده. وعندما دخل الأمريكيون العراق، أصبح والد «جامد» هو الذي يقود الأعمال.
وكما أسلفنا، صورة الأحداث تتخذ شكلا جدليا وفكريا باتجاهين: أفقيا باتجاه المحيطين بـ»مصدام»، أهله وأصدقائه والكل من حوله من جنود وضباط، وعموديا باتجاه الأسئلة الوجودية التي كانت بلا إجابات حاسمة. في لُجّة أحداث الحرب ووسط الجبهة المشتعلة، كان «مصدام» لا يلتزم بالأوامر وتعرض للكثير من العقوبات بسبب عدم قوله «نعم سيدي»، عند مناداته من قبل الضباط.
لذا قرر الفرار من الجيش عند أول إجازة. فكان يهادن ويجامل من أجل هذه الفرصة الأخيرة وهو يعرف أنه سيُعدم: «سوف أبني جيلا من كلمة نعم». جاءت الفرصة عندما طلب منه ضباط الفرقة أن يكتب شعرا لمناسبة تهم رئيس الدولة، وقد نجح رغم تردده في القبول لينفذ قراره ويهرب عن طريق الرعاة البدو وينجح في الوصول إلى لندن، ويستقر ويصبح أحد أصوات المعارضة الرئيسيين بعد أن أعدمت عائلته.
تنتهي الحرب العراقية الإيرانية وتبدأ حرب الخليج الأولى بكل تصدعاتها وفشلها، ثم حرب الخليج الثانية التي انتهت بسقوط السلطة، وكأننا وسط دوائر من الموت والقمع السياسي. لتنتهي صورة الصراع بصوت الراوي الضمني الذي يضعنا أمام سؤال يعيد نفسه دائما، لكن دون إجابة شافية: من يديم روح هذا الصراع وكيف بدأ ولماذا لا ينتهي؟ تأتي الإجابة على لسان راويها، لأننا لا نزال نعيش وسط تاريخ كتبته يد السياسة الملوثة بالدماء: «يريد تذكّر ما حلّ به حين غادر باتجاه المثلث التركي الإيراني العراقي، فهو الآن وسط لندن وله اسم في المعارضة العراقية. يغادر شقته باتجاه قاعة فندق هيلتون متروبوليتان وسط العاصمة البريطانية، يرتدي أحلى ملابس لديه وقد جاءته إلى الشقة، بدلة حبرية اللون وقميص أبيض وربطة عنق بلون البدلة عليها نقاط بيضاء على شكل نجوم صغيرة جدا وجوارب باللون ذاته وحذاء لامع».
*كاتب عراقي