كي لا أرى ما أرى: مرآة الحرب والحب في زمن الدمار

2024-11-06

غلاف ديوان شعر رانيا كرباج «كي لا أرى ما أرى» هيفاء بيطار*

لو أردت أن أضع عنواناً لديوان شعر رانيا كرباج «كي لا أرى ما أرى» لكان، وجع وطن ووجع قلب. في هذا الديوان. الصادر عن دار نينوى 2024، وهو مقاطع شعرية أقرب لشعر الهايكو تحكي رانيا عن نزيف مدينتها حلب، حيث عاشت جحيم المدينة وانتقلت مع أسرتها إلى اللاذقية منذ أكثر من ثماني سنوات، لكن بقيت ذكرياتها في حلب تحرق قلبها بالحنين والألم الأشبه بحرق في الروح، ووجعها على وطن تراه ينزف أبناءه. تقول في أحد المقاطع (هناك حرب متمسكة بقلبي ـ وقوارب نجاة ورقية).
في الصفحات الأولى من الديوان ينكشف جرح الروح على سوريا في مقطع (كي لا أرى ما أرى) تكتب رانيا: كي لا أرى ما أرى ـ أطمر رأسي في الرمال ـ مع أنني لا أملك رشاقة نعامة ولا عنقها الطويل ـ لكن لي قلباً رهيفاً أنهكته الرؤية! كي لا أبصر وحوش العالم وهي ترتشف دمنا أملأ عيني الثالثة بالحصى.
لكن الشعر وحده يداوي جرح الروح ويُبلسم أوجاعها تقول رانيا :أحياناً أرتدي جناحين من شعر وأطير، ذلك أنه فقط خارج نطاق الجاذبية تستطيع أن تتحرر من أثر الفراشة ـ وتداعيات الحرب معاً..
يتماهى ألم الحب مع ألم سوريا الجريحة، كأن الحب يولد مهزوماً وموجوعاً في الحرب، تشعر بأن ما تكتبه عن الوطن كأنها تناجي الحبيب فحبها له مجروح وهي مخذولة من حبيب يهمل حبها في مقطع بعنوان (جناحان من شهوة) تكتب: أما أنا فمن ثمارك أحببتك ـ ما أن تلقفتها بكفي العاريين ـ حتى هرول دمي ـ وصار لي جناحان من شهوة ـ أنا الآن أرفرف حرة ـ من غصن إلى غصن ـ ومن فكرة إلى فكرة ـ كان عليّ أن أكتب عن حسن الأرض ـ فإذا بي أصطدم بوجه الحرب ـ كان عليّ أن أصيح وجدتك ـ وجدتك فإذا بي أصرخ: سقط وجه الحق.
كأنها تقول سقط العدل ووجه الحق في سوريا. هذا التماهي بين الوطن النازف (سوريا) والحب الذي يولد متألماً كطفل ولد معاقاً يطغى على كل شعر رانيا في كتابها الجديد تكتب :
ضاع وجهك الأبيض في الدخان ـ وسُحق تحت الأقدام ـ وجه الحب !
ـ ذات غروب أسمع ضجيج حزنك يقرقع في بطن الأرض ـ هذا الخواء لا يملؤه سوى كسرة حب.. أما فوق هذا الخراب كلما لاح حب اتضح أنه سراب أما تحت الخراب أتعتقدين أن حباً سينبت في القلوب المُهشمة !
تغلب مشاعر الحزن العميق والحارق في روح الشاعرة وديوانها، ولا يُمكن أن نلومها لأنها شهدت جحيم حلب، حيث احترقت ذكرياتها، وحيث تدمرت بيوت أحبة ومعمل زوجها الذي كان باب رزق ثلاثة أخوة وأسرهم، ألم الانسلاخ عن حلب الشهباء وهي ككل السوريين يرونها تحت النار تُدمر، ألم لا يُمكن أن يزول أو حتى يخف إنه كالوشم في الروح وفي الذاكرة، في كل المناطق التي تدمرت في سوريا يقول ساكنوها وهم يرون حطام بيوتهم وذكرياتهم: وجعنا كبير فقد دمرت الحرب ذكرياتنا، كلهم كانوا يتمنون لو نجا من الحريق والدمار ألبوم الصور، الذي يشهد على كل ما عاشوه من فرح وأعياد وحزن وصور أحبة، قوة الصورة كبيرة جداً في الحروب.لكن ثمة مقاطع تنتفض فيها الروح النازفة من الحرب ومن وجع حب معاق في زمن الحرب، فتستنهض الشاعرة قوة كامنة في روحها وتتمرد على الاستسلام لليأس والحزن تقول :
جسدي المجبول من حنين وأنين وروح ذئبة لا تلين يُجيد الانقضاض حين يتكدس الظلم في أحشائه، يُمزق بأنيابه حبل الصبر، وينقض.. هو لا يلتهم فريسته لكنه يلتقطها من عنقها ويرمي بها خارج الحلبة، ثم يعود إلى ليونته المعهودة، أتراه كان حلزوناً في حياة أخرى؟
توقفت متأمله مقطعا بعنوان (خطيئتي عظيمة) أهو شعور الشاعرة تجاه رب العالمين أن خطيئتها عظيمة؟ أم أنها تجسد حال كل امرأة تشعر بعقدة الذنب، وتشعر بأنها خاطئة دون أن تغوص في أعماقها لتعرف إن كانت خاطئة، أم أن المجتمع البطريركي الذكوري وعقلية المجتمع المتخلفة، وتقدير واحترام الرجل أكبر بما لا يُقاس من احترام المرأة، التي يحدد قيمتها وتُفصل شخصيتها كما يفصلون ثيابها، ثمة تساؤل: الشعر تمرد وطوق نجاه، والرسم تمرد أيضاً، ورانيا شاعرة ورسامة تُظهر تمردها وقوة روحها وعدم خضوعها لتنمر المجتمع، لكن مقطع (خطيئتي عظيمة) يضعنا في حيرة فهي متمردة وحرة، لكن في الوقت ذاته تشعر بعقدة الذنب (عقدة الذنب موجودة في كل الأديان) وكما لو أنها عصيت أمر الله، وشعرت بأن خطيئتها عظيمة تقول: خطيئتي عظيمة ـ خطيئتي عظيمة يا رب ـ فقد كسرت الغلالة الشفافة حول عنقي، وصرت وحيدة خلية، إلى متعددة..
خطيئتي عظيمة، فقد صار لي عنق يستطيل ليشم وردة، ويحنو من أجل قبلة، وصار لي ذرية خائفة.
لكنها في المقطع ذاته تتمرد على الخطيئة: فخطيئتي جميلة يا رب، تتبختر بقامتها الممشوقة على التراب مرددة: هذا أبي الذي علمني الحكمة ـ أما حكمتك الساكنة في عليائها فلا ملمس لها ولا لون، وتقول إنها تضبط عقارب الكون دون أن تتمكن من ضبط دقات قلبي! أحببت تلك العبارة (دون أن تتمكن من ضبط دقات قلبي!) هنا الأنثى تنتفض وتدرك كينونتها وأنها خالقة ومبدعة، فهي كأنها تعترض على مفهوم الخطيئة في الأديان، فحواء هي التي أغوت آدم، وارتبط الشر بالمرأة عبر كثير من الأساطير في دول كثيرة، وسبق أن كتبت عن تماثيل حوريات البحر في إيطاليا فحورية البحر (نصفها امرأة ونصفها سمكة) هي المسؤولة عن غرق مراكب الصيادين، لأنها تشوشهم، وعبارة (الشيطان امرأة) والإعلام الذي يُعلي من قيمة الرجل الذكر ويحط من قيمة المرأة.
تلك العوامل جعلت الشاعرة رانيا كرباج تُعبر عن شعور النساء بالخطيئة، نفحة التمرد هذه ذكرتني بالعبارة الرائعة لفروغ فرخ زاد (أثمت إثماً مُشبعاً باللذة) ثمة مقاطع كثيرة متمردة أيضاً في شعرها: أنا الأرض التي كنت تظنها ثابتة ـ مع أنها تدور ـ القمحة الممتلئة ـ مع أنها مطأطأة ـ والريح التي تهب كي تجدد ما يدب! أنا السلحفاة المتأنية، وحين تلوح لي الأقدار أنقض كلبوة. الجالسون على عروش يغلي تحتها نهر دم ـ سيغرقون فيه لا محال.
في مقطع بعنوان (لا يكفي أن تأخذ وضعية الكتابة): لا يكفي أن تأخذ وضعية الكتابة، أحياناً كي تكتب، لا بد أن تغوص في الألم ـ لا بد أن تغوص في الألم وتحلق في النشوة إلى أن تأتي بكسرة تضعها فوق نوافذ الحالمين فيتنهد قليلاً جوع هذا العالم.
«كي لا أرى ما أرى» هو عمل شعري إبداعي لرانيا كرباج، يعكس ببراعة التماهي بين وطن جريح دمرته الحرب وحب مستحيل. يُشعرنا النص بأن جرح الوطن يشبه ذاك الحب الذي يبقى بعيد المنال. يتميز شعر رانيا بصدق عاطفي عميق، حيث تكتب بشغاف قلبها وبشغف عاشقة للشعر الذي ينبض بقوة كحب الحياة.


*كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي