ميشيل أيوب سيروب
الكتابة عن فنان مجهول الهوية، أمرٌ في غاية الصعوبة، لكن نبذةً عنه وتقصي سيرته الفنية عن قُرب ومن بعض «المصادر» تدفعنا لاحترام وقفته النبيلة إزاء ثورتنا المشروعة، وموقفه المميز من القضية الفلسطينية يجعلنا مُمتنين لهذا الصوت الثوري في فضاء الإعلام الغربي المولع بحقوق الإنسان والدفاع عن الحريات، ما خلا قضايانا العادلة.
بانكسي: فنان فوضوي ثوري (الفوضوية مذهب فلسفي يدعو لإِلغاء الملكية الفردية والدولة، مؤسسها باكونين 1814- 1876). اليوم، يُعد بانكسي أشهر فنان يرسم الجداريات، وهو الأكثر إِثارة للجدل منذ عقدين. جدارياته مُتلألئة بالسخرية والألم، تشرشل ونابليون نموذجين صارخين. متحف بانكسي في بروكسل قدَّم مُقاربة أصلية للوحات بانكسي، تلك اللوحات التي احتلَّتْ الجدران في عواصم عديدة. يعرضُ المتحف أيضاً لوحات مؤطرة لأعمال فنية تُثير تساؤلات مُلحة وراهنة، طالما كانت موضوعات سياسية وحيوية مُعادية للرأسمال والسلطة والملكية الفردية والأفكار المُسبقة.
لقد تَمَّ تقديم بانكسي بطريقة غير مسبوقة وبإِخراج يدعو للإعجاب، أقله: ركن خاص للقضية الفلسطينية، جداريات تفضح ممارسات العدو الصهيوني ومزاعم الجيش الأخلاقي في نقاط التفتيش، وإهانة الأطفال، وتعنيف النساء، والممارسات اللإنسانية خلف جدار الفصل العنصري. ومن حُسن حظنا، نحن السوريين، سلط بانكسي الضوء على مسألة المُهاجرين بلوحة لعالِم الفيزياء الفذ ستيف جوبز(1955- 2011، أمريكي من أصول سورية) فيها يُذكرنا بانكسي بوالد ستيف ورحيله من سوريا، وخصنا كذلك بلوحة» الفتاة ذات البالون» وهي اليوم من أشهر اللوحات العالمية وأغلاها، التي تُسلط الضوء على عدالة مسألة الحرية والكرامة في سوريا. فتاة صغيرة تعمل على إطلاق البالون نحو المجهول: من ينتظر الرسالة في الطرف الآخر: هل هما أبواها؟ من سيتلقى البالون المرسوم على شكل قلب؟ هل هم رجال الأمن الذين سيفجرون البالون لحرمان الفتاة من حلم اللعب والسعادة؟ بالنظرة الأولى والمؤثرة، العمل الفني يؤرجح المُشاهد بين خيارات عديدة: هل تبحث الفتاة عن حبها المفقود بعد هجرة أبويها؟ أم البالون هو إِنذار أخير للعالم الذي أصمَّ أذنيه عن مأساة نبيلة في تفاصيلها اليومية؟ هل هي دعوة للمنظمات الإنسانية بالاعتناء بالأطفال والالتفات للمشردين والنازحين، ضحايا الحرب الظالمة ضد الطفولة أولاً؟ اللوحة حظيت بمكانة عالية في سوق المزادات العالمية، وما زالت قابلة للتأويل لجسامة وهول التراجيديا السورية.
يُتَّهم بانكسي من جمهوره المتنامي والعريض عبر العالم، بأنه يستغل مآسي الشعوب لجني المال، يرد بانكسي على مُنتقديه بالتبرع للمؤسسات الخيرية والمشافي ولمنظمات الطفولة والدفاع عن المهمشين. في قاموس le petit Robert إصدار عام 2015، ثمة معلومات عن بانكسي، ليس بالضرورة الأخذ بها كونها لا تتطابق مع مصادر أخرى، وربما هي افتراضات: («فنان بريطاني من مواليد 1974، أشتُهرت أعماله بعد عام 1998، العام الذي رسم فيه لوحات تحت عنوان «جدران النار»). في موسوعة le grand larousse illustré طبعت عام 2022 ص 1313 نبذة موجزة ومختصرة عن بانكسي: «فنان بريطاني، اسم مستعار، مجهول الهوية». للفنان أيضاً لوحات ذات صلة مباشرة بالسياسة امتازت هذه اللوحات بالسخرية والاستفزاز والاحتجاج، لوحة العملة المزيفة وفيها رسم الليدي ديانا (1961- 1997) على العملة الورقية الإنكليزية الباوند بدلاً من الملكة اليزابيث الثانية (1926 – 2022). لسان حال بانكسي يقول: الملكة هي ديانا وهي أجدر بهذا المنصب. رسم بانكسي أيضاً، مونوبولي عملاقا في لندن كنوع من الاحتجاج ضد الرأسمالية، وضد الألعاب الأولمبية الصيفية عام 2012 التي جرت في مدينة الضباب، وسلط فيها الضوء على مشكلة العمال المهاجرين من فيتنام والهند وباكستان، أولئك الذين يتقاضون باوند واحدا في اليوم. يميل بعض النقاد وهو رأي مُخالف للقاموس المذكور أعلاه، بأن الأعمال المنجزة ما هي إلا إِنجاز «جماعي» لعدة فنانين.
لقد تسنى لي سؤال القائم على المعرض في بروكسل أن أسأله: كيف تتواصلون مع بانكسي؟ أجابني: بكل بساطة عن طريق محامِيه وفريق عملِه، ثُمَّ استطرد: ربما يعتمد بانكسي على أتليه ويتعاون مع فنانين آخرين. لغاية اليوم يتم حجب اسم ومولد ونشأة بانكسي من قبل دور المزادات العالمية لتحقيق المزيد من الأرباح، وهذا الغموض يُضفي بريقاً على شخصية الفنان المجهولة أصلاً. رسم بانكسي أيضاً جدارية لشاب فلسطين مُلثم يحمل باقة من الورود، يتوجه بها نحو المحتل الذي قتلَ وشردَ واغتصبَ الأرضَ وتنكرَ لكل القوانين والمواثيق الدولية، هذا الشاب يقدم مُبادرة للعيش المشترك ولنبذ السلاح يمد يده وهو يحتضن باقة الورد بدلاً من البندقية، وقد لخص بانكسي سنوات الصراع الدامي بعد عقود من الضغينة، لكن ماذا عن نظام
الفصل العنصري خلف الجدار؟ بمواجهة هذه اللوحة يجسد بانكسي طائرات الأباتشي وهي تُلقي القنابل على الآمنين والمدنيين وعلى أشجار الزيتون. كم يُسعدني لو تتبنى وسائل الإعلام والفضائيات العربية جداريات ولوحات بانكسي في الفضاء الرقمي وفي الصحف، ذلك الفنان الذي يُعد بجدارة نصيراً لمآسينا وقضايانا العادلة.
* الجداريات: نوع من الفن التشكيلي يُعرض في الهواء الطلق بلا إطار، لاقى انتشاراً واسعاً منذ بدايات القرن العشرين، أمثال المكسيكي خوسيه كليمنتي أوروزكو (1883- 1949). يُعد الفنان دييغو ريفيرا(1886- 1957) من أشهر الفنانين في تاريخ هذا الفن، لكن مواضيعه لا تُلامس مستوى مواضيع بانكسي المُثيرة للأسئلة الراهنة ولقضايا شائكة. يمكن مقارنة مواضيع الفنان الهاييتي جان ميشيل باسكويه (1960- 1988) بفن بانكسي الذي دمج الراب وموسيقى الهيب هوب بفن الجداريات. مواضيع بانكسي جزء من التراث الإنساني العالمي: دعوة للسلام ونبذ العنف.
٭ كاتب سوري