بيير جوريس/ ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
تقديم: مرت خمس سنوات على رحيل أمجد ناصر وتحديدا في 31 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 بعد صراع بطولي مع الداء الخبيث الذي استوطن دماغه. لا تكمن أهمية أمجد ناصر فقط في كونه واحدا من أبرز رموز الشعرية العربية الحديثة والمعاصرة، وإنما في الأبعاد المتعددة لشخصيّته. التزم الرجل منذ طور الفتوة والشباب بالدفاع عن فلسطين والحقوق المشروعة لشعبها. وقد حفزه ذلك على الانتقال إلى بيروت للعمل في الصحافة الثقافية للثورة الفلسطينية. وهي المهمة التي سينقلها معه إلى قبرص ولندن. أخلص أمجد لقيمة الترحال بين الجغرافيات وأجناس الكتابة الأدبية. وكانت المحصلة تنويعا من النصوص يتوزع بين الشعر والرحلة والرواية.
بيير جوريس شاعر ومترجم وأكاديمي أمريكي وأستاذ الأدب المقارن في جامعة نيويورك.
النص:
علمت بمرض أمجد وكنت قد التقيته قبل سنوات مضت في باريس. وسرعان ما أصبح شخصه وكتابته قريبين مني. وكان قد وافاني بنسخة من الترجمة الإنكليزية لـ”مواقف النفري”. وهو الكتاب الذي سوف يكون له تأثير قوي على عصب تفكيري في الشعرية البدوية المترحلة. كان أمجد نفسه من قام بترجمة قصائدي إلى اللغة العربية، ونشرها في الصفحة الثقافية لجريدة “القدس العربي” التي أسهم في تأسيسها.
كان الشاعر والصحافيّ والروائي الأردني قد نشر على صفحته في فيسبوك نصا قويا ضمنه بعضا من نصوصه الشعرية وقال في سياقه، إن حياته استشرفت نهايتها بعد مقاومة الورم السرطاني في دماغه للعلاج. وقد أثارت هذه النصوص عند القراء خليطا من المشاعر تتوزع بين الصدمة والألم والإعجاب. كتبت هذه النصوص في الظاهر بعد زيارته لمستشفى شرينغ كروس في لندن. وكان الشاعر قد تلقى في هذا المستشفى خبر فشل جلسات العلاج في وقف نمو وتضخم الورم.
ولد أمجد ناصر، أو يحيى النعيمي النميرات في الطرة في الأردن عام 1955. استهلّ حياته المهنية في الصحافة قبل ان ينخرط في العمل السياسي والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، وقد تنقل أثناء ذلك بين عمان وبيروت وقبرص. أصدر ديوانه الشعري الأول “مديح لمقهى آخر” عام 1979 وكان حينها في الرابعة والعشرين من عمره. وقد كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف مقدمته. وفي عام 1987 أسهم في تأسيس جريدة “القدس العربي” في لندن واستمر في العمل فيها على امتداد أكثر من عقدين من الزمان. وعلى الرغم من الشهرة التي اكتسبها بوصفه شاعرا وصحافيا، فإنه كتب في أجناس أدبية متعددة ومن بينها، الرحلة والرواية. كان يراوح في الحقيقة بين أساليب وأجناس أدبية، ويقول البطل السارد في روايته الشعرية “حيث لا تسقط الأمطار” عن عمله الأدبي بأنه يستعصي تصنيفه في خانة الأدب المألوف في المشهد الأدبي ويصعب إقناع القراء بوجوده. بيد ان أعماله الأدبية موجودة وحاضرة بالفعل، وأتحدث في هذا المعرض عن قصائده ورواياته وسروده الرحلية. وهي تحظى باستقبال جيد من لدن القراء، سواء كانوا نقادا أم كتابا. وقد خصصت جريدة “اخبار الأدب” القاهرية عددا خاصا لأمجد وأعماله، وشاركت في تحريره أسماء وازنة من قبيل غسان زقطان وطارق الطيب وقاسم حداد وغيرهم.
ترجمت بعض من أعمال أمجد ناصر إلى الإنكليزية، ففي عام 2009 نقل الشاعر والمترجم خالد مطاوة قصائد مختارة من كتابه الشعري “رعاة العزلة” إلى الإنكليزية. كما ترجمت روايته الأولى “حيث لا تسقط الأمطار” الصادرة عام 2011 عن دار الآداب في بيروت إلى الإنكليزية. وقد وصف المترجم جوناثان ورايت الرواية بأنها الكتاب الذي تمنى كتابته باللغة العربية. جرى اختيار قصيدته ” نشيد وثلاثة أسئلة” عام 2014 من لدن مكتبة الموسم الأدبي ضمن أجمل خمسين قصيدة حب على امتداد خمسين عاما. وتمت دعوة أمجد ناصر لافتتاح مهرجان الكتاب الذي تشرف عليه جامعة نيويورك. بيد ان إدارة الأمن القومي الأمريكية رفضت الموافقة على دخوله إلى الولايات المتحدة. غير أن أمجد سيشارك بالفعل في افتتاح المهرجان من خلال شبكة سكايب التواصلية الافتراضية.
سوف يكتب أمجد روايته الثانية “هنا الوردة” التي وصلت إلى اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2018. وسوف يحرز في سنة 2019 على جائزة محمود درويش للإبداع الأدبي. سوف يقوم فادي جودة بترجمته عمله الرحلي “البتراء: الوردة المحجوبة” إلى اللغة الإنكليزية. وقد لازمتني هذه الترجمة لمدة أسابيع؛ بحيث لم أكن أتوقف عن قراءتها المرة تلو الأخرى. ويمثل هذا النص الرحلي العمل الأكثر مقروئية من لدن من سبق لهم أن زاروا البتراء، أو تراوده الرغبة في زيارتها، أو يرغب في تخيل عظمة المواقع الأثرية الأردنية وتواريخها. وتحتفي المختارات الشعرية التي ترجمها فادي جودة وخالد مطاوع بنصوص شعرية تتوزع على ثلاثة عقود، وتحديدا ما بين 1979 و2014. وقد جرى اختيار هذه المختارات التي تضم أيضا رحلة البتراء ضمن اللائحة الطويلة لجائزة الترجمة الوطنية لعام 2017.
كتبت الروائية اللبنانية هدى بركات في شهادتها المنشورة في جريدة “أخبار الأدب” المصرية أنها تعرفت على أعمال امجد ناصر وقراتها في وقت متأخر. ولكنها لم تلبث أن أيقنت بمجرد حصولها على أول كتاب شعري بأنه لا مندوحة لها عن قراءة كل ما كتبه، أو ما سوف يزمع كتابته. وتقر الكاتبة بأن كتبه موجودة فوق مكتبها وفي كل مكان في بيتها، وأنها تحرص على العودة إليها وقراءتها بانتظام. وليست الصداقة هي من وصلت بينهما. ولا تعتقد بأنها التقته في ما سبق ولو على سبيل المصادفة. كما أنها لم تسع إلى ذلك. وكانت ستتحاشى فكرة تشويش هذا الحديث عليهما. كان الشاعر داخل كتابته هو من حملني على اللقاء به من خلال القراءة، بوصفه شقيقا للروح. وكانت تشعر بالخوف من الخيانة وإخلاف الموعد، وأن أخص هذا الخيال الجميل الذي أبدعه بنظرة متعالية باهتة. وأضافت هدى أن أمجد من الكتاب القلائل الذين يدفعونك بعد أن تتفحص كلماته بعناية إلى أن تعيد قراءة أعمالهم مرارا. وكان صوته الخافت يقودها إلى شخوص رواياتها وكانت تتخيل أحيانا أنه يتحدث إليهم، أو يقف خلف أحدها خلف هذه النافذة.
عرف أمجد ناصر بمواقفه السياسية المناصرة للعدالة ومساندته للحقوق الفلسطينية منذ أمد بعيد. وقد تسبب ذلك في منعه من دخول الولايات المتحدة الأمريكية.
سألت أمجد ناصر في غمرة حوار قصير أجريته معه قبل سنوات عن دور الكاتب وكان جوابه: ينبغي للمجتمع أن لا يضطلع بمسؤولية خاصة حيال الكاتب، أو الشاعر أو الفنان بشكل عام. ذلك أنه يشكل جزءا من هذا المجتمع وينبغي له أن لا يتعالى عليه، أو يكون على هامشه في الآن نفسه. ويتمثل الصواب بالنسبة له في ان يكون جزءا منه. وسوف يصبح في مقدوره والحالة هذه ان يدافع من أجل حرية هذا المجتمع وحقوقه الإنسانية والمادية والمدنية المشروعة.
يمكنني القول في النهاية إننا سوف نفتقد حقا وبشدة أمجد ناصر الشاعر والروائي والصحافي.
*مترجم مغربي