صراع الهوية والهوية الضد في رواية «قناع بلون السماء»

2024-09-08

عبير غالب علبة

حين يشهد المخيم صرخة الميلاد وانبثاق الكينونة، فإن حضور المكان لا يقتصر على المستوى الحسي الخارجي؛ وإنما يتغلغل عميقاً في الشخصية، ويؤثر في سلوكها ومواقفها وردود أفعالها. في المخيمات يغدو المكان صخرة سيزيف، ينوء بحملها شعب يعيش المأساة، في ظل واقع مضطرم مضطرب على المستويات كافة. يعرض الكاتب معاناة العام الجمعي عبر عرض قصة بطله نور الشهدي ذي ملامح إشكنازية ورثها عن والدته المتوفاة، كما كان رفاقه في المدرسة يطلقون عليه لقب الإشكنازي، بسبب لونه الأشقر وزرقة عينيه. في الرواية حديث عن مخطوط رواية يفكر فيه نور، مولد أحداث المخطوط ومحركها قصة مريم المجدلية، وبسبب قلة المصادر التاريخية عن سيرة المجدلية أراد نور، خريج معهد الآثار الإسلامية، أن يتعرف تاريخ المجدلية، عبر البحث عن آثارها المطمورة في الأرض الفلسطينية من أجل كشف حقيقتها. من الواضح أن المصادفة لعبت دوراً في بناء الحبكة وتوجيهها، وشكلت انعطافاً رئيسياً للحظة مهمة في السرد، حين عثر نور مهدي الشهدي على بطاقة هوية لشاب إسرائيلي اسمه أور شابيرا داخل جيب معطف اشتراه من سوق الخردوات. فلا عجب أن ينتحل نور شخصية أور شابيرا من أجل أن يطارد أثر تاريخ بائد، مستغلاً ملامحه الإشكنازية ومن أجل تحقيق مراده التحق بمعسكر تنقيب آثاري تبنته مؤسسة أمريكية في مستوطنة مجدو قرب قرية اللجون المُهجرة. رغبة نور في التغلب على العقبات التي تواجهه من أجل تحقيق مراده كانت محرك الفعل الروائي، وهذا ما جعلنا نتابع تطور الحبكة سطراً وراء سطر وصفحة وراء صفحة. الاسم وَسْمٌ ، انفراد للشخصية عن الآخرين، وحين تحمل الشخصية اسمين يعني التعرف عليها بظهورين، وهويتين مختلفتين مفتوحتين على الإمكانات الخاصة بكل هوية؛ لذا لم يعد من الغريب أن تشكل شخصية نور من حيث البناء فاعلاً فنياً يولد الأحداث ويحركها على المستويين الضديين: نور الشهدي وأور شابيرا القناع هو الآخر الضدي، فلا غرابة في أن تكون العلاقة معه قائمة على التحدي والصراع الدائم. القناع هنا لا يحدد توجه أور شابيرا وانتماءه وحسب، بل يرسم حركة مجتمع قائم على العنصرية والتزوير واغتصاب حقوق الآخر.

وبطبيعة الحال لم يكن قصدُ باسل خندقجي من تعقب بطله سيرةَ المجدلية الإحياءَ التاريخي لها؛ بل أراد أن تكون قصة المجدلية حاملة لأفكاره ورؤاه، فلا قيمة لاستحضار الأحداث التاريخية في السرد، ما لم تمتلك هذه الأحداث المرونة وإمكانية التقاطع مع أحداث الحاضر. «قناع بلون السماء» رواية عرضت قضايا لها حساسيتها في التاريخ والدين والسياسة، لكن المعرفة التي قدمتها كانت جزءاً من شخصية بطله نور الشهدي وتجربته وثقافته؛ ما وسع آفاق النص السردي وأغناه جمالياً ومعرفياَ بعد أن حررها الكاتب من خطابها الفكري الجاف؛ لتُدرج ضمن الخلق الفني وآفاقه المبدعة. وحين اتكأ الكاتب على أحداث تاريخية لها إسقاطاتها على الحاضر أراد ألا يعزل الراهن الفلسطيني عن جذوره التاريخية؛ لذلك لم يعد من المستبعد أن ترفض الرواية الأجوبة الناجزة الجاهزة التي يقدمها الآخر (العدو الصهيوني) وتقذف بنا في أتون الأسئلة الحارقة المعذبة التي يفرزها الواقع الفلسطيني كل يوم عبر شخصيتي: نور الشهدي وسماء إسماعيل الفتاة الفلسطينية الجميلة المتمسكة بهويتها العربية الفلسطينية. وقد تعرف نور على سماء إسماعيل في ورشة التنقيب الآثاري المقامة بالقرب من مستوطنة العدو.

تعالج الرواية التمييز الصارخ بين العرب الفلسطينيين واليهود الصهاينة عبر اختراقها الواقع الصعب الذي يعيشه فلسطينيو الداخل من جهة، وانتحال نور هوية أور شابيرا واقتحام عالمه؛ ليكتشفه وبالتالي ليتحرر منه من أجل العثور على الذات من جهة أخرى. ومن المهم الإشارة إلى أن الكاتب جعل بطله يطارد أثرَ تاريخ ٍبائد عن المجدلية بالقرب من مستوطنة العدو، ذلك أن التنقيب يكشف الحقائق والوقائع التي ألمت بحقبة معينة، لذلك لم يعد من المستبعد أن ترمز المجدلية في الرواية إلى فلسطين التي يحاول العدو طمس تاريخها، وتغييبه، كما تم تغييب سيرة المجدلية. ألم تحاول إسرائيل انتزاع فلسطين من سياقها التاريخي وحضورها الجغرافي من أجل حجب الحقيقة، كما انتُزعت مريم المجدلية من سياقها الجغرافي والتاريخي عبر العصور.

يضاف إلى ذلك أن خندقجي جعل بطل روايته نور يحلم بأنه ذهب إلى البئر القريب من المستوطنة، ورأى المجدلية ينبعث منها الضوء، وأنها تشبه سماء إسماعيل، بل ذهب الكاتب أبعد من ذلك حين اكتشف بطله كثرة الأشياء المشتركة بين سماء إسماعيل والمجدلية، ودليلنا على ذلك قوله: «لأكتشف الآن أكثر من أي وقت مضى أن سماء إسماعيل هي مريم المجدلية النورانية، وأما أنا.. لست بيسوع المُخلص. قد أكون يهوذا الإسخريوطي» بهذا التصور تصبح سماء إسماعيل، بملامحها العربية وتمسكها بهويتها وتعاطفها مع ضحايا النازية وكل القضايا الإنسانية، رمزاً لفلسطين أيضاً؛ وبعبارة أدق رمزاً للشعب الفلسطيني المناضل في سبيل الحصول على حقوقه المسلوبة الرافض سياسةَ التوسع والتهجير القسري والإبادة التي يقوم بها العدو. ومن الواضح أن أحداث الرواية يرويها سارد عليم -خارج القصة – لا وجود له بين الشخصيات ويتخلل أحداث الرواية رسائل صوتية يرسلها نور إلى صديقه مراد. ويبدو لي أن الرسائل الصوتية لم تكن تصل إلى مراد المسجون في سجون الاحتلال؛ بل كان يسجلها نور لصديقه – رغم عدم وصولها- ليستمد الثقة والثبات منه، وليتمكن من مواجهة التحديات التي تعترض مسعاه المجدلي. مثّل مراد الجانب الواقعي والمنطقي بالنسبة إلى صديقه نور، أو بدا من خلال الرسائل الصوتية (الأنا العليا) لشخصية نور لما يحمله من قيم وتفكير ناضج وقدرة على التوجيه.

ومما يستحق الذكر أيضاً أن الكاتب اعتمد تقنية السرد التلخيصي، بهدف تسريع حركته، عندما استعرض طفولة نور التي من المفروض أنها استغرقت مدة طويلة، ولعل أبرز أحداثها وفاة والدته، وصمت والده بعد خروجه من المعتقل، وما تلا ذلك من إحساس بخيبة الأمل والخذلان؛ بسبب انتهازية رفاق النضال ومتاجرتهم بالقضية من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية وغيرها من أحداث.

ومن اللافت للنظر اهتمام خندقجي بتحديد زمن المتن الروائي، بدءاً من رسالة صوتية، سجلها نور مخاطباً فيها مراد في سجنه تحمل رقم 12 تاريخها: 19 نيسان/أبريل 2021 وانتهاءً بخروج نور من مستوطنة مجدو بتاريخ: 12 أيار/مايو 2021، ولعل اهتمام الشخصية بالكشف الدقيق عن الزمن، يشير إلى رغبتها في السيطرة على الظرف المحيط كما يرى بعض النقاد. حين تعالج الرواية واقع شعب اغتُصبت أرضه، وقُتِل أصحابها، وهُجر من بقي منهم لا نستطيع أن نغفل أثر الزمن وإحالاته السياسية والاجتماعية والنفسية. وفي ضوء ما تقدم نستطيع القول: إن شعباً يعيش المأساة بحدودها الشاسعة حتى هذه اللحظة، يستحق حضوراً كثيفاً في السرد المعاصر سواء أكان منتصراً أم مهزوماً. بهذا المعنى تغدو الكتابة فعل امتلاء، وتحد كونها تواجه تاريخاً طويلاً من العنصرية، وتزوير الحقائق والقتل الممنهج بالكلمة والفكرة والمعنى غير القابل للزوال.

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي