سفيان البراق
أدّت التحولات النوعية والجادة التي شهدتها أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والمتمثلة في الاكتشافات العلمية، خاصة مع كوبرنيكوس وغاليليو، ثم الإصلاح الديني الذي حدّ من تعسف وجور الكنيسة، إلى جانب بروز الحداثة السياسية والنزعة الإنسانية التي اهتمت بالفرد وأعادت له الاعتبار بعدما كان مهمشًا ومغيبًا في العصور الوسطى. كل هذه التحولات مهدت لنشوء فلسفات جديدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، والتي تطورت عن الفلسفة التقليدية وأنتجت مجالات متخصصة مثل فلسفة العلم، فلسفة الفن، فلسفة الدين، وفلسفة التاريخ، وغيرها من الفلسفات.
بيد أنّ فلسفة تُعنى بالسفر، بوصفه الطريق الأيسر والمختصر ليكون الفرد معتدلا حسب فلوبير (إيميلي توماس، معنى السفر: سفر الفلاسفة، الرياض) وتولي له فائق الاهتمام، بالكاد لا نجدها، بل إنّ ما نعثر عليه هو مجموعة من النّصوص المتناثرة عند هذا الفيلسوف وذاك، وهذا ما يشي بعدم الاهتمام بهذه العادة القديمة قِدمَ الإنسان. ولا دهشة إذا قلت إنّ السفر كان مغيّبا في المتون الفلسفية، ومردّ هذا الزعم هو التصنيف الذائع الذي تقدّم به أبيقور حينما صنف الرغبات إلى ثلاثة: رغبات طبيعية ضرورية، ورغباتٌ طبيعية وغير ضرورية، وأخيرا رغباتٌ غير طبيعية وغير ضرورية (للاستزادة يُنظر: الطمأنينة الفلسفية). وقد صنّف السّفر ضمن الرغبات الطبيعية وغير الضرورية، معتبرا إياه ترفا وشيئا ثانويا لا حاجة للمرء أن يشغل بالهُ به.
أصدرت الباحثة إيميلي توماس كتابا كنَّتْهُ بعنوان: «معنى السفر (سفر الفلاسفة)» وقد صدر مُترجَما إلى العربية، في طبعة أنيقة، عن دار الكتاب الجديد في الرياض، في طبعته الأولى، سنة 2022، وبترجمة: نشوى ماهر كرم الله. ولعل من بين التمثلات الخاطئة التي تحاول إيميلي التصدّي لها في كتابها هذا هي أنّ «الفلاسفة لا يسافرون». معلومٌ أنّ سقراط، «شهيد الفلسفة الأول» على سبيل التمثيل، لم يبرح أثينا، بل عاش فيها ردحا من الزدون أن تخامرهُ فكرة التنقل والسفر، ورائد النّزعة النقدية باقتدار وصاحب المقالة العاصفة: ما التنوير؟ إيمانويل كانط سار على الدّرب نفسه، حيث لم يبتعد عن مدينته كونيجسبيرغ إلا نادرا وكان يحبذ الاستقرار والمكوث فيها. كما تصدّت الباحثة لجُملةٍ من القضايا يمكن إيجازها في الآتي: هناك زعمٌ ينطلق من شحّ الكتابات الفلسفية في السفر ومعانيه، ومن ثمّة هناك من تبنى موقفا يفيد أنّه لا توجد فلسفة خاصّة اعتنت بالسفر وبالمشاعر التي يولّدها، وبالفرص التي يتيحها، لاسيّما أنّ الفلاسفة، في اعتقاد أصحاب هذا الطرح، يتوجسون من السفر. قامت إيميلي، في سياق ردّها عن الذين بخّسوا السفر ونظروا إليه نظرة قاصرة، بتمييز بالغ الأهمية، حيث ميّزت بين مفهوم السفر ومراميه، كما عرفه القدامى فلاسفة كانوا أو أناسا عاديين، ومفهوم السياحة الذي صار أكثر فشوا في راهننا. غير أنّ الفكرة الجوهرية التي حاول الكِتاب تأكيدها هو أنّ الفلاسفة، في العصر الحديث، اهتموا بالسفر، وسافروا سواء مضطهدين أو عن طيب خاطر، ومن ثمّة قدّمت إيميلي أطروحة تفيد بأنّ هنالك فلسفة للسفر رسم ملامحها فلاسفة العصر الحديث، وهي قمينة بالتمعُّنِ والاهتمام.
الفلسفة والسفر
أكّدت إيميلي في الصفحات الأولى من كتابها أنّ هنالك علاقة وشيجة تجمع الفلسفة بالسفر، بل إنّهما متلازمان؛ حيث إنّ الفلسفة، برأيها، تفيد في إدراك معنى السفر والتفكير فيه بعمق، والسعي إليه بشغف قصد الاستكشاف والمعرفة لا التسكع والتنعُّم والترفّه. وهذا التأكيد المفاجئ جاء بعد عودتها لما دبّجه بيركلي عن السفر، الذي أكّد أنّ «السفر قد يؤدي إلى نهاية العالم – نهاية طيِّبة» ثم بعده فقيه العقد الاجتماعي صاحب الكتاب اللمّاح «إيميل أو التربية» جان جاك روسو الذي نظر إلى السفر حسبانهِ مقوِّما أساسيا في نجاح التربية والعملية التعليمية. إلى جانبهما، كان الفيلسوف الفرنسي مونتين، صاحب فلسفة التدرب على الموت بالتفلسف، كان ولعا بالسفر، وبالتنقل والترحال، وهذا الولع الزائد برره مونتين بأنّ السفر يتيح له اكتشاف تباين العالم وتنوعه، ويُمكِّن المرء من معرفة أشياء جىيدة وغير مألوفة (=الغيرية) كان يجهلها. جعل فرانسيس بيكون، أحد ألمع فلاسفة العصر الحديث وصاحب نظرية الأوهام -الأوثان الأربعة الشهيرة: القبيلة، الكهف، السوق، المسرح- الرُّكح، من السفر نواة لا مناص منها لفهم العالم وإدراكه، وقد أسهم اهتمامه الفائق بالسفر إلى استدراج باقي فلاسفة القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين للانشغال بالسفر والتفكير فيه جديّا، ليصبح، أي السفر، في اعتقاد توماس إيميلي، أساسا للعلم الحديث لا أَبَقَ عنه. سبك بيكون مقالة فريدة وسمها بـ»عن السفر» وكان مدارها أنّ السفر ليس مجرد ترفٍ، أو مجرد حيز زمني يمضيه المرء مستكينا للاستجمام والسكون، وبالتالي لا ينجح في القبض على جمرة السفر الحقيقية، بل إنّ السفر جزءٌ من التعليم، ويجب أن يستغل الشّاب المسافر سفره ولا يفتر عن الالتقاط (الأفكار لا الصور) وتدوين كل ما يلحظهُ (معنى السفر). ومجمل القول: يتصور فرانسيس بيكون أنّ جوهر السّفر «ما هو إلا جمعٌ للمعلومات». بعد بيكون دبّج رائد الفلسفة التجريبية جان لوك مقالة: «في الفهم البشري» ورغم أن مظانها هو الفلسفة والعلم لكنها لم تخلُ من تلميحات ظاهرة عن السفر وأهميته في حياة الإنسان. وهذا ما دفع مؤلفة الكتاب إلى الزعم والقول: «لم يخرج جون لوك في أسفاره عن حدود أوروبا قط، لكنه كان مفتونا بالسفر البعيد، فكان يلتقي بالمسافرين العائدين، ويرسل في طلب معلومات ممن في الخارج». ومن بين الفلاسفة الذين استحسنوا السفر ونظروا إليه بإيجابية نجد برتراند راسل الذي وصف السفر بأنّه «أمر حسن، وأنّ الحياة خارج بلادنا تقلص التحامل» إلى جانب راسل نجد أحد مجايليه المنتمي لتيار الوجودية، وهو يعدُّ من الذين كتبوا كتابات تمجيدية عن السفر واحتفوا به؛ وأعني: ألبير كامو الذي وصف السفر، رغم تجربته المحتشمة في عالم السفر والترحال، بأنه تجربةٌ يغذّيها الشعور بالخوف الذي كلّما تقوى في داخل المرء أجج الرغبة في السفر ومبارحة المكان، ومن ثمّة يصير السفر تجربة روحانية أكثر من أن يكون مجرد متعةٍ عاديّة. مما سبق يُستجلى أنّ الفلاسفة، في مختلف المراحل التاريخية، قد اهتمّوا بالسفر، ومجّدوه، وتشوفوا إلى تجربته، لأنّه تجربةٌ تصفي الذهن، وتجدد الطاقة، وتورّث النّشاط، وتدحرُ اليأس والتبرم من الحياة، وتبعث الأمل والإقبال على الدنيا، لأنّ الاستكانة للاستقرار والجمود تنتج عنه «ذهنية اتّكالية» غير قادرة الإنتاج، غرضها الرّاحة والاستهلاك، في حين أنّ مداومة السّفر يكسّر الروتين ويحفز الإنسان على النّشاط، ويضخ في داخله المشاعر الحسنة التي من شأنها زيادة مردوديته وفعاليته في الحياة، كما أنّ السفر متعة استكشافية تُعادل حِرفة السؤال، ويُغيِّرُ نظرة الكائن البشري إلى العالم حيث البقاء في مكانٍ واحد يمنحه نظرة خاطئة عن باقي مناطق العالم ويجعله جاهلا بخصوصية باقي المجتمعات وثقافتها. وعلى الرغم من وجود فلاسفة لم يعيروا أدنى اهتمام لثقافة السّفر فإنّ هذا لا ينقص من قيمتهم، ربما لأنّهم اكتفوا بسفرٍ داخلي – صوري يكون عبر التأمل، التفكير، التساؤل، الشَّك (يقول أبو حيان التوحيدي: «الشّك صيغة الإنسان». ورد هذا القول في: محمد الشيخ، المغاربة والحداثة) الأحلام، والاستيهامات، وهذا أيضا سفرٌ له نهكته الخاصة، بيد أنّها تتباين مع لذّة السفر المادي والواقعي.
على سبيل الختم
وحاصل القول إنّ هذا الكتاب هو محاولة جادة لتعقب تاريخ السّفر فلسفيا، ومحاولة محترمة قصدتْ التصدي للأسطورة التي كرّست نفسها والتي تزعمُ أنّ الفلاسفة لم يحظوا بتجربة السفر، وأنّهم كانوا ميالين للتقوقع والانعزال، لكن صاحبة الكتاب قدّمت أمثلة كثيرة لأساطين الفلسفة ممن تبنّوا فكرة السّفر وشجعوا عليها، وحفزوا الشّباب أن يعيشوا تلك التجربة الثرية التي لها مناقب عديدة قد يصعب عدُّها وحصرها. وبالتالي يُمكننا أن نتكلم عن فلسفةٍ للسفر ابتدعها الفلاسفة ابتداء من القرن السادس عشر (بيكون، ديكارت، لوك، روسو، راسل…) رغم عدم نضجها واكتمالها في ما بعد، ولعلّ ما ينمّ عن عدم اكتمالها هو أنّه لا توجد فلسفة للسفر مستقلة كباقي الفلسفات.
كاتب مغربي