أصيل الشابي
تأسس الشعر العربي المعاصر في جانب مهم منه على مواجهة الواقع والتمرد عليه، وبرزت في هذا الإطار صوره ورؤاه الاحتجاجية عند الشعراء العرب إما بطغيان الدلالة السياسية كما عند مظفر النواب صاحب القصائد المهربة أو بصيغ أخرى وأدوات مختلفة تتطلب التأويل. ويلاحظ قارئ قصائد شكري البكري أول ما يلاحظ هذه الأنا الهادرة المناورة السائلة عن مصيرها في المدينة التي تؤويها، وهو سؤال يرج وعي من يجربها، إذ سرعان ما يبرز هذا الاصطدام بالواقع في ملامحه المختلفة، يظهر هذا في ديواني «فواصل الغياب» الصادر في سنة 2009 عن مطبعة النجاح الجديدة في الدار البيضاء و»الشرفة 48» الصادر في سنة 2017 عن منشورات سليكي أخوين في طنجة انطلاقا من العنونة، وعلى امتداد النصوص، فما يحكمها هو الانقطاع اللافت بين الذات والمدينة، الذي ترجمت عنه الكتابة الشعرية هنا بالفواصل والغياب وما يفيد هذا المعنى كالنسيان والاغتراب والفقد والمجهول والموت.
التضاد بين الأنا والمدينة
تبدو الأنا في القصائد حائرة، لا تملك لنفسها حركة واضحة، أو وجهة معينة، فهي غريبة عن المدينة، إذ يقول الشاعر في ديوانه «فواصل الغياب» أصعد/ وهبوطي عياء/ أي هذي البطاح تأويني؟/ عيناي غديرا دم/ جنبي يؤلمني/ لا آباط لي، ولا دمع لشجوي/ ولا مساء. ويعود ذلك إلى بنية التضاد التي توجه القول الشعري في درجات متوالية لا تفتأ تتسع وتتعمق، فيظهر التمزق بين الصعود والهبوط، ثم ينشأ معنى الهبوط بوصفه هبوطا موجعا موسوما بالعياء يختلف عن الهبوط العادي، ثم يتشكل الاستفهام عن المأوى من خلال الصورتين الاستعاريتين: «عيناي غديرا دم» و»جنبي يؤلمني» الذي تتحول بمقتضاهما المدينة إلى محيط متوحش يلتهم الذات وينتج الموت بسمات حسية بارزة كالحمرة والوجع، وهو ما استدعى صيغ النفي المتوالية: «لا آباط لي/ لا دمع/ لا مساء» في بنية إيقاعية لافتة بطابعها التكراري التوكيدي مدارها على الضياع.
ولا ينفك التضاد يتسع بالفعل الاستعاري كما هو الشأن في قول الشاعر في فواصل الغياب: «هذا الطريق يحبل باللامتوقع/ يغزوني من كل المنحدرات/ يُطبق على شفاهي» وكما هو الشأن في «شرفة 48» حينما يقول: «يعوي الجزرُ في المساء/ قد يشبهني هذا الجزر». وقوله في الديوان نفسه، «تعوي ريح الهجير» وقوله: « أطلب فنجانا آخر من الملل» ليتضح من ثم هول هذا الحاجز بين الذات والمدينة، فالمدن مدن غبار والطريق لها صورة مخيفة بأبعاد سريالية، تغدو معها الذات ضحية صامتة، ثم يتحول العواء إلى ما يشبه اللازمة، بل يتحول إلى لغة المدينة.
تؤسس الاستعارات في» شرفة 48» مجموعة من الصور المتخيلة الأخرى التي تشف عن المدينة البائسة، من خلال البياض الذي تجري فيه الذات والريح سابعها، والطفل المعدم لا برتقال في عينيه ولا وطن، والصبية يتعلقون بشاحنة الأزبال. وتؤسس في فواصل الغياب صورة القروح التي أزهرت، وأفنان الشجى التي أزهرت، واليتم يطل من بنان الجميلات، والكأس تمسك بخناق الذات، وشيماء التي تحولت من اليسار إلى اليمين. وتتحد هذه الصور على مدى القصائد لتبني صوت الذات الحزين النائح، فالاستعارات حينئذ تشف عن هذا الصوت وتجلوه وتفكك المدينة لتكون مفضوحة أمام القارئ، فهي مكونة من هذه النتف وهذا الزيف. وتسمح الاستعارة أيضا بجعل العناصر الطبيعية كالعواء، دليلا على توحش المدينة وباستحضار مجردات كثيرة كالليل والكآبة والصبح، إلى دائرة الفعل الفاضح، لتكون أداة حجاجية لإدانة الواقع والتبرؤ منه، ووسيلة فنية تضمن تجاوز المباشرة، بتوسيع المسافة بين الدوال والمدلولات والابتعاد عما يسميه أدونيس الخطابة.
استعارة الشرفة مسكنا للذات
لم يخرج الشاعر من المدينة باحثا عن الغاب، كما في الشعر الرومانسي، وإنما تحصن بشرفته. فاستعارة الشرفة العالية مميزة في هذا الإطار، بحضور يشمل جميع النصوص تقريبا من خلال دوال مباشرة وغير مباشرة، محيلة على المحسوس أو المجرد، فقد أمكن للذات أن ترتقي إلى هذا الموقع وأن تكتسب القدرة على التبئير، الذي يأخذ القارئ إلى حقيقة أن المدينة التي تمثل العالم والواقع إنما هي فضاءان الأول هو القاع، والثاني الأعلى، فهي مدينة مقسومة على نفسها.
ويحتج الشاعر باستعارة الشرفة على قبح واقعه، فيقول مصورا مأساته في «فواصل الغياب» «في أحشائي كان ذلك القتلُ/ الشعور المفعم بالجريمة/ الثأر الجاهز. ويقول في «الشرفة 48» للحاء الحياة/ وللباء البدر/ وللواو وصل الود لا غيرُ /ولكم الغدرُ، فهو يرفض المدينة ويتخذ له الشرفة مسكنا أو مدينة داخل المدينة تقيه غدر الآخرين والجريمة، فهي بهذه المواصفات تتجاوز مجرد العلو في المكان إلى حيازة الوعي ومعانقة الحرية.
تضمن الشرفة أيضا للذات أن تطل على نفسها، فتتحول المدينة إلى مرآة، وتنبني ثني النص ثنائية الشرفة والمرآة، فتكون الذات رائية والعالم مرئيا ومن خلفه تكون الذات مرئية، والحركة حركة مد وجزر، بين الرائي ومرئياته، فالذات تغامر من أجل اكتشاف نفسها، إذ يقول الشاعر في «شرفة 48» «لهذا الوجه وجه/ لا أعرفه/ يدركني/ ولا أدركه. ويقول في «فواصل الغياب» يا جسدي المبتل بالصمت ورائحة الزعفران/ سر بي إليك. هكذا تنشأ الشرفة شعريا بفضل الاستعارة تنسجها مقلة الذات، تنشأ مفردة وتستحيل جمعا، ثم تكتسب الشرفات أجنحة كما في قصيدة أجنحة الشرفات من ديوان فواصل الغياب، ألا يكون المتكلم بهذا المقتضى بحارا؟ ألا تكون الشرفة سفينته المتخيلة؟ ألا تكون المدينة بحرا مائجا هائجا ضاعت في خضمه شيماء المرأة، حينما رضيت بالقناع وانغمست في اليومي كما في قصيدة أوجاع شاردة من ديوان «شرفة 48»؟ ألا يسعى المتكلم إلى أسطرة مغامرته وهو يجرب المدينة ويكتوي بجراحاتها؟
تأويل المدينة
يرتبط مفهوم الخيانة بالمدينة في ظل الانقسام بينها وبين الذات، يقول الشاعر في «فواصل الغياب»: «أيخفي الغمام عناوين الخيانة؟» ويتعمق هذا المفهوم من خلال الاستخدام الاستعاري الذي يضطلع بوظيفة إدانة المدينة بما هي تمثيل للواقع، فالمدينة هنا خائنة وقاع يشبه الجحيم بدلالة المعذبين فيها، وما التمسك بالأعلى الرامزة إليه الشرفات إلا محاولة للنجاة، غير أن الاستخدام الاستعاري يتيح في درجة أخرى تأويل هذه المدينة، فهي مدينة الغبار والجريمة والملل، وهي المدينة التي انكمشت شمسها وسكن ظلها لغبائه، وهدر فيها صنبور كذب أصفر وزعق بوقها، وعاد فيها الحب في «شرفة 48» كقطعة كوكيز ندية يلتهمها كلب.
ليس الشاعر في الديوانين نورسا كما في أزهار الشر لبودلير L’albatros حينما كان ذلك الطائر المائي تابعا فاصطاده البحارة وصلبوه وضرب أحدهم منقاره بالغليون وقلد آخر مشيته العرجاء في لحظة الموت، لأن شكري البكري لم يبن صورته في هذه الدائرة على التشبيه والتقريب بين حال الشاعر وحال النورس، وإنما بناها على استعارة الموت، فإن الشاعر هنا يخرج من نعشه ويتخذ الشرفة له مسكنا، ويظل محلقا فيها يبحث في المدينة عن ظله وصوته وصمته وجسده وحرفه وكلماته وخطوه، والطفل فيه والمرأة التي يحب، ويستذكر حرق روما والأنوف الفرنسية وزغاريد الأم. إن الذات تتقمص موتها بعد قتلها في المدينة كما يتقمص الصوفي موته في المنام، فتخرج من حدود المكان والزمان المتعارف عليهما.
يرتبط الشعر عند شكري البكري بالتأثير في الواقع وتغييره بعد تفكيك زيفه، فتبرز الحاجة إلى فضح المدينة وتجاوز أقنعتها وواجهاتها وإغرائها. والفضح هنا فعل جمالي تخييلي قائم على الاستعارة يجسد حرية الذات وطموحها إلى عالم أفضل. ولا شك في أن الشاعر ينخرط بهذا في تيار شعري أكبر يرى في الشعر فرصة لاستعادة قيمة الإنسان، في عصر يطغى فيه الاستهلاك على الحياة، بما في ذلك استهلاك الإنسان ذاته واعتباره مجرد سلعة، إن للشعر عند البكري في هذا الخضم أشرعة وأي أشرعة.
ناقد تونسي