يوميات غانم بابان: غنائم حروبٍ خاسِرة

2024-08-21

كاظم غيلان

لم يرَ غانم بابان «يوميات الهروب العظيم» التي دأب على نشرها على صفحته الشخصية في فيسبوك على مدى أكثر من عام، والتي جمعها بتشجيع الأصدقاء، وغيرهم من متابعيه، لتصدر ككتاب يحمل عنوناً آخر «أسفار التيه العراقي» عن دار ومكتبة أوراق ـ بغداد لكن بعد رحيله عن الحياة في 17 حزيران/ يونيو 2021 ما أوجع صاحب دار النشر وظهر في مقدمته المشحونة بالأسى. كان عليه أن ينتظر، أن نحتفي ويحتفل معنا بصدورها، لكنه الموت، الزبون الدائم للعراقيين الذين أشبعهم الوطنُ مراراتٍ واكتوت أرواحهم بجحيم المنافي، فلم يعد الوطن حاضنةً دافئةً لغانم ومن على شاكلته، إذ اتسع ليتحول إلى (مولات) ومتاجر لمهرجانات البغاء الثقافي، التي يحييها من تسبب بنفي غانم والمئات من مثقفي وفناني العراق، وهنا ارتبكت العدادات، إذ بقيت الضحية على حالها، إن لم يكن أتعس بينما الجلاد، ارتفع مقامه في ظل حكومات الطوائف والقبائل! أليست هذه وحدها مفارقة عجيبة ربما تكون سبباً في موت غانم؟

«أسفار التيه العراقي» صدرت بواقع 554 صفحة من القطع الوسط، هي ذاتها اليوميات التي أشرت لها مقدماً، دونها غانم بحرقة ووجع إذ ضجت بوقائع سيرة ذاتية دونت كل شاردة وواردة بكل ما امتلك بابان من وضوح فهي (يوميات كالماس) كما يراها الشاعر العراقي إبراهيم البهرزي، في مقدمته للأسفار، التي وجد في اشتغالات كاتبها استفادة من تجربته في المسرح العراقي ما جعلها (تقف عارية على خشبته). بينما يرى الكاتب والروائي سلام عبود في مقدمة أخرى تلت البهرزي «مذكرات تشبه غنيمة حرب» وما يميز هذه اليوميات، حسب عبود، أمران أولهما، «غياب الحدود الفاصلة بين المعيش والمتخيل، وهو غياب قسري وليس غياباً ايهامياً» أما الثاني فهو «شجاعة غانم السردية في مقهاه الكوني الطليق؛ فقد حاور غانم ذاته باعتباره بطلاً للانكسارات، بطلاً للخيبات، بطل الخسائر الدائمة».

غادر غانم بابان العراق عند اشتداد الأزمة وانفراط عقد التحالف بين الحزبين، البعث الحاكم، والشيوعي المحكوم عند نهاية سبعينيات القرن الفائت. وكان (هجيجا) جماعيا للخلاص كأدنى درجات الخسارة في حسابات الحزب، بينما التشتت و(التيه العراقي) كان في انتظار الجميع.

تبدأ اليوميات بهاتف حبيبته (لبنى) التي زاملها في كلية الفنون الجميلة، الأكاديمية آنذاك، التي التقاها بعد زواجها ذات مرة في دمشق، كانت أول من رحب بعودته المجهولة نتائجها، ومن في العراق يعرف غده، إبان سنوات الاحتقان الطائفي فكيف اذا كان هذا العراقي غانم بابان المشبع بالخيبات. توزعت أسفار غانم حسب المنافي التي عاشها (بلغاريا، لبنان، اليمن، الشام، روسيا، السويد) مع أن العراق ظل محور تلك اليوميات فهو السبب بكل ما حصل لبابان.

(المنفى) يا له من قدر غامض ومصطلح ملتبس، فهو لم يبتكر حياةً جديدةً كما تكشف وتفضح يوميات غانم، فالسياسة بقيت بالعهر ذاته، والمؤتمرات والوشايات والمكائد التي راح يقابلها بسخريته وتهكمه، التي استمدها من كوميديا المسرح الذي تولع به مبكراً، لذا تجد صفات يطلقها ضاحكاً مثل (نائب رفيق، شيوعي مسلكي، شيوعي مكلف). يذكرهم بالأسماء، أولئك الذين صادفهم، وكل على حد قدره وحقيقته: بكريمهم وبخيلهم، بصادقهم وكاذبهم، بقبيحهم وجميلهم، بصعاليكهم وعقلائهم. بلا تزويق ولا مهادنة، أزاح الإخوانيات وقذف بالمهادنات والتلونات كلها بعد أن وجد أن قول الحقيقة عارية، خير من أن يلبسها ثياب النفاق الملونة.

الكشف عن (أبو سرحان)

ذياب كزار (أبو سرحان ) شاعر عراقي يكتب بالعامية وواحد من أبرز شعرائها، الذين أسهموا بحركة تجديد هذا اللون بعد مظفر النواب، إلى ذلك فهو من أبرز شعراء الأغنية العراقية الحديثة، الذين صدحت حناجر أهم المغنين العراقيين بكلماته مثل، سعدون جابر، حسين نعمة، فؤاد سالم ، مائدة نزهت، فاضل عواد. انتمى للحزب الشيوعي العراقي مبكراً، وكان الأصغر سناً بين سجناء المنفى الصحراوي الشهير (نقرة السلمان) عمل في جريدة الحزب المركزية «طريق الشعب» لحين الحملة الشرسة التي قادها البعث، فكان كما غانم بابان وبقية رفاقه قد هرب ناجياً بجلده باتجاه بيروت ليعمل في صحافتها.

إبان الحرب الأهلية هناك عام 1982 وأثناء الاجتياح الإسرائيلي اختفى أثره مع عدد من رفاقه، كثرت التقولات والشائعات وصدر العديد من الموضوعات الصحافية عنه، إلا أن مجهولية المصير بقيت هي الشائعة.

غانم بابان في أسفاره هو الوحيد الذي كشف عن مصيره، فقد كان بابان رابع أربعة في سيارة واحدة (كاظم الخالدي، صباح ستراك، أبو سرحان وغانم بابان) إذ انتهى بهم المشوار عند حاجز تابع لحزب الكتائب، لقي الجميع حتفهم في حوض (الأسيد) باستثناء غانم الذي خلصه جواز سفره العراقي، بينما رفاقه راحوا بسبب جوازاتهم اليمنية. أبو حبيب المسؤول الكتائبي هو الذي ارتكب جريمة تصفيتهم والعشرات غيرهم، حسب يوميات غانم بابان، وبتفاصيل دقيقة مرعبة. المفارقة التي يشير لها بابان في التحقيق الذي أجراه معه أبو حبيب، وبحكم العلاقة الودية بين البعث العراقي والكتائب، ان القسم برأس صدام حسين واحدة من وسائل الخلاص! صدام الذي كان سبب النفي يتحول إلى منقذ!

تبقى أهمية هذه الأسفار كامنة بما جاء فيها من بوح صريح بخلاف معظم مذكرات السياسيين العراقيين المشوشة، التي أقدم معظم كتابها ومن سائر الأحزاب والحكومات على تراشق الاتهامات في محاولات لتنزيه وتبرئة ومحو جرائم كبيرة ارتكبت بحق شعب العراق، وهذا هو الفارق الجوهري بين الرياء السياسي ويوميات المثقف العراقي غانم بابان.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي