علي لفتة سعيد
يبدأ الاشتغال الشعري في مجموعة «لا شيءَ يُشبهني سِواك» لعاطف الجندي منذ العنوان، على أنه المحرك الأساس لفاعلية هذا الاشتغال، الذي يعد مدينة الدخول إلى النص الكلي المؤلف للمجموعة بحداثة التجربة الشعرية، التي تنطق من الفعل التدويني الخاص بها، والذي يتمركز على قصيدة التفعيلة بشكل كبير والعمودي بشكل أقل. لكن بطريقة الحداثة التي تأخذ بيد الاشتغال إلى لحظة التدوين. فالعنوان يشكل بوابة الدخول، مثلما يشكل حاضنة كبرى للفروع التي تأتي بها النصوص الشعرية، عبر عناوينها المفتاحية. وقبلها تعطي الفاعلية للإهداء ليكون عتبة العنوان الرئيس، فيتحول العنوان من شكلٍ السيميائي باعتباره عتبة، إلى حاضنةٍ للعتبة، كونه تحول إلى بوابةٍ يدخل منها المتلقي. فالإهداء يكون مركز البوابة، ويكون علامة سيميائية أخرى:
(إليها
فهي تعرف أنه لها
كما أعرف أنها تستحق ذلك)
على الرغم من أن العنوان هو نص من نصوص المجموعة، لكنه مع الإهداء تحول إلى جامعٍ النصوص أيضا، من خلال الإحاطة الكلية بماهية الوجود والغاية الأساسية لإنتاج النص. فالاشتغال هنا بدأ من خلال تفاعل العنوان الكلي مع العناوين الفرعية، لتتويج الصورة وتوحيدها داخل إطار الاشتغال (التفعيلي) وكذلك (العمودي) الذي يشكل نسبة غير قليلةٍ في المجموعة، لكنها تعطي الصورة الكبرى لكيفية الاشتغال (التفكيري) الذي يعطي أهمية للمفردة، على أنها التي تعطي ثلاث حركات معا.
أولها: حركة المفتاح الذي يفضي إلى المدخل/ الاستهلال وهو العتبة الأولى.
ثانيها: حركة الموسيقى الداخلية التي تفضي إلى فاعلية الوزن الشعري، كونها ترسم الملامح الخاصة بالنص/ عمودي تفعيلي.
ثالثها: حركة الحداثة التي تنقل (خاصة التفعيلة) إلى حالة السرد، لكي يبقي الأثر التأويلي قائما بذاته.
لهذا تكون الكتابة الشعرية في هذه المجموعة وكأنها لعبة الأفكار، كأن الجندي كمنتج نص لم يرد للاشتغال أن يكون آليا تابعا لمفعول التفعيلة الشعرية أو الأوزان الشعرية في القصيدة العمودية، بل الآخذ به إلى اللحظة التدوينية، التي تريد من الحداثة أن تأخذ الفعالية الاشتغالية إلى مدياتٍ أوسع، مع المحافظة على اشتغالين مهمين.. غائية الوزن الشعري العام، وغائية الحداثة التي تقترب في الكثير من الأحيان من فاعلية الغاية السردية. وهو ما يميز هذه المجموعة كاشتغالٍ وإنتاجٍ وتدوينٍ عن غيرها. لتضاف إلى ذلك فاعلية الأفكار التي تحملها النصوص (القصائد) الموزونة، وكأنه يلعب لعبته بطريقة من امتهن الإنتاج الشعري، لتكون له منصة، يلقي من خلالها النص (القصيدة) على مستمعيه (قارئيه).
عوامل الاشتغال وتأثيث النصوص
إن الاشتغال في أول ملامحه يأتي من خلال ثلاثة عوامل مهمة:
العنوان: حيث يتميز بروحية الشعر من جهة، وروحية الحداثة النثرية السردية من جهة أخرى.
الاستهلال: الذي يعطي مفعول الدلالة الإنتاجية في الشكل الخارجي وسيميائية الفكرة، التي تبدأ من أولى الكلمات، وكأن العتبة الأولى هو الاستهلال وليس العنوان، لأنه حول العناوين الفرعية (النصوص) إلى بواباتٍ صغيرةٍ، ترتبط بالبوابة الكبرى (العنوان الرئيس)
الشكل الكلي للنص الواحد: حيث يتركه لأهمية الفكرة، ليكون الدليل الموصل إلى مفعول الدلالة (العنوان) فيكون التقطيع واحدا من أهم المراحل الاشتغالية لغالبية النصوص (القصائد).
ومن هنا فإن هذه العوامل الثلاثة، هي المهيمنة في الاشتغال الذي يكون على أساس الحركة التي تتبعها المفردة الشعرية داخل المبنى السردي، التي تفضي إلى فاعلية النص (التفعيلي والعمودي). ومن خلال المراقبة الفاعلة لأفكار النصوص، يمكن تجديد الاشتغال الكلي الذي يتمتع به الشاعر/ المنتج. فهو يجنح إلى عملية تأثيث النصوص بالاعتماد على ثلاثة أشياء:
العنوان للنص الواحد: وهو عنوان مزاح عن فاعلية الفكرة ووجودها المعماري.
الفكرة التي يجمعها النص الواحد: وهي تجمع ذرات المفردات حولها، لتعطي شكلها القصدي والتأويلي.
تأثيث الفكرة وبنائيتها، لتكوين الاشتغال الكلي للنص الواحد. والتأثيث هو الثوب النهائي لكل قصيدة، سواء التفعيلة، أو العمودي. ومن هنا فإن التأثيث يشمل الشكل العام، المفردات، والفكرة التي تحملها هذه المفردات، وفاعلية مكانتها في الجملة الشعرية، وغايتها في العملية التأويلية التي تعطيها الفكرة الكلية. ولهذا فإن القراءة التي ينتهجها المتلقي ستكون حمالة طريقين مهمة، طريقة القراءة الشعرية كونها قصيدة موزونة، خاصة النصوص التي تنتمي إلى الشعر الحر. وطريقة القراءة السردية التي تقربها إلى روح قصيدة النثر، لأن الكل الذي يعطيه المنتج لتأثيث النص، يأخذ هذه الطريقة، وكأنه يلعب على الحداثة الشعرية في القصيدة خاصة الحرة، واللعبة من خلال التقطيع الذي يجعل من النص عبارة عن مراحل إنتاجية متعاقبة، أو متوالية لفهم الفكرة الكلية للنص:
(كن بسيطا
كانفلاتِ الطرحِ
في صدرِ البناتْ
***
كن جميلا كاخضرار الشدو
في صبحِ النباتْ
***
كن عصيا
مثل نجمٍ شفه الوجدُ ابتعادا
بينما خط امتدادا
للندى في كل ذَاتْ)
من نص «كن كما أنتَ»
المستويات السردية والاشتغال الشعري
الاشتغال في هذه المجموعة، كما أسلفنا، يعتمد على حركة المفردات والفكرة وآلية الاشتغال، ويمكن القول إن الشاعر المنتج يمتلك القدرة على اللعب في آلية الاشتغال على المفردات. لهذا يكون جسد القصيدة جسدا واحدا، من الصعوبة الأخذ بجزءٍ منه، ليكون هو اللافتة العليا أو المختارة، ليكون هذا الجزء هو المعول عليه في فهم فكرة النص. وهو بهذا يعتمد على عدة نقاط لإنتاج النص الكلي، إضافة إلى النقاط التي ذكرناها:
أولا: ربط العنوان بالاستهلال ليبدأ حياكة الجسد الكلي للقصيدة/ النص. وهي طريقةٌ غايةٌ في الأهمية التي يتوخاها المنتج كعلامةٍ سيميائيةٍ مرئية للمتلقي:
(لا شيءَ يُشبهني سِواك (العنوان)
لي في الطريقِ إلى الطريقةِ
نجمتانْ
ويمامتانِ على طريق الريحِ
تنتظرانْ
وتهيجان براءتي
لتقبلَ النحلَ الذي ترك القفيرَ
ليجتلي رؤيا الحقيقةْ)
ثانيا: استمرار النهج في تعليب المفردة، لتكون في ثوب العمودي، ومحاولة فك انغلاقها في نص التفعيلة، لتكون على ساحة التفاعل مع الحالة السردية/ النثرية:
(يا صاحبي مهلا
فهذا الأمر
محتاجٌ إلى قلبٍ فسيحْ
جئنا الحياةَ ولم نكن
يوما سوى قبضٍ لريحْ؟!
فبصدفةٍ صدقتُ ما قالَ النبي
بصدفةٍ
صدقتَ ما قالَ المسيحْ) من قصيدة (الصدفة)
ثالثا: التوسع في ملامح الموتيفات التي تؤلف الجسد النصي، وكأنه يستخدم المستوى التحليلي، لإعطاء فاعلية لما بعد الاستهلال، بعدا مكانيا، مثلما يمنحه بعدا صوريا، يمكن الإمساك به من قبل المتلقي، على أنه لحظة القبض على المستوى القصدي:
(سلاما لصبحٍ
يوزع تحنانه للجميع
وقلبٍ حوى مفرداتِ الوجودِ
وصاغ النشيدَ
وألقى بيانا) من قصيدة (من تراتيل الغياب).
رابعا: منح المستوى الفلسفي الذي يظهر، ليكون حاضرا على شكل سؤال، من خلال تفاعل المستويين الإخباري والقصدي داخل النص، وكأنه يريد لفاعلية النص أن تكون مهادا متفاعلا ما بين الغاية والمقصود:
(حط الذباب على الذبابْ
والحسنُ مكتمل الغيابْ
كيف الغرورُ أتى لها
وأقامَ صرحا من ضَبابْ؟!
يا ألفَ خائنةٍ
لجرحٍ فاض من وجع العتابْ
يا ألفَ عاهرةٍ
تبيتُ على مهادٍ من حِرابْ) من قصيدة (كذبة)
خامسا: المغامرة بفاعلية المقدرة التي ترتدي ثوب التفعيلة، لكنها تنشد النثرية، وإن كان بثوبٍ سردي، من أجل منح الطاقة الكبيرة، حتى لا تكون أسيرة القافية مثلا، بل إلى مفعول الموسيقى الداخلية:
(يا لحلاوة المنظر
وعيناك التي أهوى..
تُجاذبني
حديثَ الروح
في شط الهوى الأطهرْ
وتكتسيان بالآمالِ
ترتسمانِ أغنيتين
فوق مواطئ المرمرْ) من قصيدة (أسماء)
سادسا: تفاعل الفكرة المقصودة، على الاشتغال الشعري، خاصة ما يتعلق بالجانب السياسي، ليكون بطريقةٍ إشهاريةٍ معلومةٍ، تمازج بين الباطن والظاهر، الهدف والغاية. والانتماء إلى الشعر والانتماء إلى المجتمع:
(هل كنتَ تحسب أنني صَهيونُ
والقدسُ الجريحةُ إمْرتي
عارٌ عليكَ وأي عارٍ إن أتيتَ
إلى طريقٍ ليسَ يُحْمدْ
***
هل رغبةٌ بالحورِ والغلمانِ
والقصرِ المُمردْ؟
***
أم هل طريق القدس
يبدأ بالدماء لجيشنا ولشعبنا
وجعٌ كبيرٌ
ناره لا، ليس تُخمدْ) من قصيدة (إلى إرهابي)
سابعا: مراعاة الشكل في الاشتغال بين قصيدتي التفعيلة والعمود، حيث أن الفكرة هي التي تحدد ثوب النص، وبالتالي الانسياق خلف اشتغالها، بمعنى على أساس الاحتكام إلى الفكرة، وبالتالي فإن الاشتغال لا يفقد مزايا القصيدة، بقدر ما ينساق خلف الفكرة والقدرة على المحافظة في غائية التدوين:
لا تظلمي هذا الشقي وتزعمي
إني نذرتكِ للجوى الهتاكِ
فأنا أحس بنبض قلبك كلما
زاد الهوى أو قل من شكواكِ) من قصيدة (استراحة عاشق).
أخذ الديوان الشعري على عاتقه طريقة اشتغالٍ تدوينية، يتلاعب فيها ما بين الموسيقى من جهةٍ، والجسد السردي للنص الواحد، بالاعتماد على الأفكار التي تتنوع في النصوص، ما بين الحب والوطن والحياة والمجتمع والصراع. فأخذ الشاعر/ المنتج يدون أفكارها، لتكون اللغة بمقدرتها الشعرية، مراهنة على تصاعد الحبكة السردية في التأويل العام، الذي يأتي دائما في نهايات القصيدة، التي تدخل كمعتركٍ استفهامي تارة، أو غايةٍ عليا في الإمساك بجمرة القصدية، لتتفاعل البداية/ العنوان والاستهلال، مع النهاية/ القصدية والتأويل:
(وأنا الدموعُ تخونني
إن مسهم يوما خفوتٌ
في شعاعِ السنبله
هل من طريقٍ يحتوي
نزفَ الحروفِ
لكي تُرد الأسئله؟!) من نص (المشكلة).
كاتب عراقي