إبراهيم سبتي
يمكن للكاتب تدوين جزء من سيرته الذاتية ودمجها بمهارة وفنيّة بالحدث الروائي والثيمة التي يتناولها في روايته، بل أن بعض الكتّاب نهلوا من سيرتهم الخاصة ووضعوها في متناول السرد الروائي، دون حواجز أو خشية اختلاط المستويين الواقعي والتخيلي الافتراضي داخل النص، ومن المعروف أن الكاتب يضع بعضاً من شخصيته داخل السرد، بلا قصد ربما أو دون دراية أو تخطيط مُسبق.. ويكون الخيال عنصراً مهماً في التدوين، لاسيما وأنه ينتج نصاً قد يكون موازياً للواقع الحقيقي الذي عاشه الكاتب. ويتم التدوين على أساس الوقائع الجديدة المتولدة في السرد فيكون الخيال قد غطى جميع الأحداث بكل تفاصيلها، فيتماهى الواقع الحقيقي مع خيال الكاتب فيصبحان نقطة انطلاق واحدة نحو خلق مفاهيم أخرى للنص المتولد.
في رواية «جنائن الوهم» للكاتب العراقي علي حسين عبيد، ثمة دمج واتصال حيوي بين خيال الكاتب، وخيال الراوي الذي يحكي الأحداث في الرواية، وكلاهما يسيران نحو نقطة التقاء واحدة لغرض الوصول للذروة في مجريات الأحداث.. فتأخذنا الرواية عبر سرد متموج بين الإثارة والقلق والترقب في رحلة بعيدة (في المسافة وفي التخيل) تبدأ من مطار العاصمة، وتنتهي في المغرب وتمرّ في عدة محطات للوصول الأخير الذي ستبدأ منه الرحلة النهائية المفترضة إلى أوروبا (إنّك في الطريق إلى الثبات والهدوء المطلق، من عمّان إلى الدوحة ومنها إلى كازابلانكا، ومنها إلى أرض الأندلس، ثم إلى خمائل الأرض الشمالية، هذا هو خط سيرنا المتفق عليه). عشرة أشخاص بينهم طفل صغير في الخامسة من العمر، يرومون الهجرة إلى أوروبا وهو حلمهم وهدفهم، فيمرون بمواقف حرجة ومثيرة ولحظات صعبة التحمل لمهاجر موعود بالهجرة مدفوعة الثمن بمبالغ نقدية كبيرة إلى شخص مُهرِب اسمه حسون بطة، المقيم في إحدى الدول الأوروبية وهي مفارقة أن يكون هو من يدير العملية عن طريق وكيل له مع الأشخاص المهاجرين.
موضوعة الرواية تتناول قصة مجموعة غير متجانسة (من بينهم الشاعر والكاتب والمسرحي والرسام والطفل والعائلة) يحاولون الهجرة رفضاً لحياة صعبة، وعلى أمل مغادرة التعاسة وسنوات المحنة التي يواجهونها في بلادهم، إلى جنة موعودة لطالما كانت حلماً لكل من يغادر مهاجراً. تلك الجنة التي ظلت هدفاً يسعون إليه بالحركة والإيماءة ودفع ما يمكن دفعه من أموال لمهربين من خلال صفقة تهريب لا هم للمُهرِب سوى الإيقاع بمثل أولئك الذين لا يعلمون ما يدور في الخفاء ووراء الكواليس حول إيصالهم إلى جنتهم الموعودة والأمل المرتجى. هي صفقة أحد بنودها بأن يستقبلهم المُهرِب في المغرب، لكنّه لم يحضر (أين حسون بطة؟ أليس الاتفاق ينص على أنه سيكون في استقبالنا). لكنّهم يتعرضون لكل أنواع الخوف والقلق وفقدان الأمان والمصير الذي صار مجهولاً والشعور بضياع الحلم، الذي صار يلازم تفكيرهم في كل وقت بعد سقوطهم في فخاخ الخداع والظروف الخطيرة، التي لا يمكن تحملها. وإن افترضنا أن الكاتب صنع نصه من وقائع صادمة حصلت له بالفعل، فإنه قام بالتدوين وفق معززات السرد الروائي المتمثل بخيال الراوي الذي اختلط بواقع حقيقي فكان ثمة التقاء بينهما لكي يستوي النص بدلالته السردية الروائية ويعطي الهدف المتوخى (كيان بشري يعيش حياتين متناقضتين في آن واحد). اعتمدت الرواية ومنذ استهلالها، على التفكير في رحلة الأحلام التي صارت هدفاً قيد التحقيق، باعتقاد كل أفراد المجموعة، الذين راحوا يتكهنون ويبنون رياض الورد وأحلام اليقظة في رؤوسهم حال وصولهم إلى مبتغاهم الأخير جنائن الحياة المزعومة التي بسببها تركوا خلفهم كل شيء. ونجد أن الراوي الذي باع نصف بيته لأجل الوصول إلى أرض الضوء والأمل، هو من ينقل الظرف العصيب للكل وليس له وحده، وكان واثقاً بالوصول ومتأكدا (أن من يضحي بنصف بيته ويركن عائلته الكبيرة في نصفه المتبقي، له الحق في التأكد من أن وصوله إلى أرض الجنان مسألة لا تخضع للشكوك). الغريب في أمر المجموعة التي صنعها الكاتب من خياله المتدفق، هو أنّهم شكّلوا وفداً مسرحياً كإجراء يعزز في عملية إقناع الآخرين بأنهم سيعرضون بعض عروضهم الفنية في المغرب. ومن ثم ينسلّون الواحد تلو الآخر عن طريق المُهرِب حسون بطة، لكن الأمر يجري عكس ما كان مرسوماً فتهاوت الخطط وصار الفشل يلاحقهم، بل إنّهم أصبحوا رهن القلق والخوف من اكتشاف خطتهم المحكمة في عملية الهروب والعبور إلى أوروبا أو الجنائن المًتخيلة. إنّها رحلة الموت والضياع والوقوع في شباك من خدعهم الذي لم يستطع الإيفاء بعهده لهم.
إن الخيال المندلق في سطور السرد مثّل الركن الأكبر في عملية إدامة زخم الروي بين الراوي (صنيعة الكاتب) وخيال الرواية من خلال الأحداث المفترضة كمكملات للجو العام للرواية، الذي أوصل القارئ إلى جو من الإثارة والترقب سرعان ما انهار وتهاوى كل شيء في لحظة فشل مروع لمشروع التهريب برمته. فصار لزاماً على الأفراد أن يعيشوا مرغمين في حياة جديدة وبوقائع مؤلمة صادمة لا يتحملها أي بشر، خاصة في بلد بعيد عن بلادهم، انتهت وتحطمت على حدوده كل الأحلام الوردية في الوصول إلى الجنائن، التي أصبحت جنائن الوهم الذي تلبس الجميع وصار جزءا من تفكيرهم الجديد في مستقبلهم المجهول. عشرة أشخاص من بينهم الراوي، كانوا شريحة غير مؤتلفة حتى في تطلعاتهم وأفكارهم وهواجسهم، إلَّا أنهم يتفقون على هدف واحد هو الهجرة عن طريق التهريب إلى أوروبا، فأدار الراوي ومن خلفه الكاتب، دفة السرد ونجح في صنع الإثارة والتشويق والترقب والألم والمعاناة، وهم على أطراف النجاح لولا الإخفاق المفاجئ الذي أعدّه لهم المُهرِب كنهاية مفزعة لآمالهم وأمانيهم. إنه الفشل الذي لا يمكن أن يواجهه أي واحد منهم إلَّا بالتضرع والدعاء والبكاء لأجل الوصول الآمن، الذي لم يتحقق فساحت تلك الأحلام على قارعة الطريق، وراحت تتهاوى كحبات رمل تطايرت في عاصفة هوجاء. إنَّها النهاية المرعبة التي فتحوا عيونهم عليها، حين فشلت الصفقة فشلا مروعاً ومدوّياً أسقط مشروعهم التخيلي، الذي كان جزءا من كيانهم وراحت عليهم فكرة الوصول إلى جنائن الشمال وأُحبطت مساعيهم إلى الأبد.
الكاتب علي حسين عبيد استطاع تصوير القلق المشروع والارتباك والخوف المرسوم على وجوه أبطاله حين صاروا يتحدثون بلسان واحد على أمل الوصول الأخير إلى جنائن الحقيقة، لكنهم واجهوا لحظة الخديعة حسب إرادة وتفكير وتطلعات كل واحد منهم. لكنّه ـ الكاتب ـ استخدم بلغته الناعمة والهادئة أسلوباً رتّب خلاله الأحداث بتشويق وإثارة وترغيب وتحبيب، استطاع أن يقنع القارئ بأن الأشخاص العشرة سيصلون سالمين غانمين إلى هدفهم الأخير «حدائق الضوء» بسرد مقنع ومتتابع متماسك، وقد ابتعد فيه عن الحشو الزائد الممل. النهاية الصاعقة كانت بمثابة أمل جديد للمجموعة، لكنّه الأمل المُغلّف بالندم والخسارة والبؤس حين انتهت فصول مسرحية التهريب، بإيصالهم إلى شاطئ بعيد عن ذلك الذي ركبوا منه قارب الهجرة، وبدأوا منه رحلتهم المفترضة إلى إسبانيا، هي الفصل الأخير من مسرحية الظلم والحيف والخديعة والإيهام الذي بات يلفّ أنفسهم العاجزة عن فعل شيء (عدنا إلى حيث بدأنا، وأننا الآن نقف على الأرض نفسها. سمعت الشاعر يردد بخفوت وألم لقد انتهى كل شيء).
«جنائن الوهم» حددت مصائر عشرة أشخاص بأسلوب فني مراوغ في استحضار كل واحد على حدة، وكانت بمثابة استجلاء كامل لحكاية بعض الحالمين بالخلاص والهجرة إلى أرض الشمال المزروعة بالورد والأمل والصدمة المفاجئة والانكسار في نهاية كل آمالهم المشرعة لاحتضان الجنائن المزعومة. وهكذا فقد تعاقبت الأخيلة بين الراوي والقارئ المترقب، وفزع ورهبة الأحداث التي كتبت فصلاً جديدا من فصول شِراك الخداع التي أبتلي بها من ابتلى.
«جنائن الوهم» رواية للكاتب علي حسين عبيد صدرت بواقع 208 صفحات من القطع المتوسط، عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد سنة 2024.
كاتب عراقي