نداء الأسلاف في رواية «النبطي المنشود» للأردنية صفاء الحطاب

2024-07-06

موسى إبراهيم أبو رياش

تأتي رواية «النبطي المنشود» للروائية الأردنية صفاء صبحي الحطاب، ضمن سلسلة روايات الحضارات القديمة، التي تهدف إلى تسليط الضوء على الحضارات القديمة في المنطقة العربية، وتقديمها للأجيال المعاصرة بثوب روائي زاهٍ، يغري بالبحث والاستزادة، والتعرف على حضارات وتراث الأسلاف، الذين كانوا ذات عصور خلت، ملء السمع والبصر.

وقد صدرت من هذه السلسلة ثلاث روايات أخرى هي: «لصوص الآثار»، و«صندوق صقلية»، و«نفرتاري الرقيم»، وهناك المزيد المقبل من الروايات ضمن هذا المشروع الطموح لصفاء الحطاب، الذي يسد فراغا كبيرا في الأدب الروائي المتعلق بالحضارات القديمة، خاصة الموجه منه للفتيان.

صدرت رواية «النبطيّ المنشود» في عمّان، عن دار المأمون، عام 2022، في 94 صفحة. ويتمحور موضوعها الرئيس حول البترا «المدينة الوردية» عاصمة العرب الأنباط، التي تقع جنوب الأردن. وتتناول هذه المقالة ثلاثة محاور رئيسية في الرواية.

حضارة العرب الأنباط

تطمح الرواية إلى تغيير النظرة المتداولة حول حضارات الشرق، خاصة النظرة الغربية الاستشراقية التي تقلل من قيمة ومكانة ودور هذه الحضارات، وأنها حضارات جنائزية احتفت بالموت والغيبيات والسحر والشعوذة، ولم تسهم في الحضارة الكونية ورقي البشرية، كما فعلت الحضارات الغربية، التي كان لها الفضل – كما يزعمون ـ في ما ننعم به اليوم من تطور ومدنية ورفاهية.

وتستند الرواية إلى أبحاث ودراسات تثبت «أن الحضارة النبطية كانت جزءا من السياق الحضاري المجاور لها»، وتؤكد تفوقها في كثير من المجالات ومن أهمها، الفلك والعمارة وفن النحت والتجارة الدولية، وبسطت نفوذها على مساحة واسعة، وارتبطت بصلات تجارية مع كثير من الدول، وكانت لها موانئ على البحر الأحمر، بل تؤكد الرواية أن مدينة البترا كانت مركزا فلكيا متقدما، ويدلل على ذلك كثير من الفخاريات والأدوات المكتشفة مثل، البوصلة النبطية لمعرفة الاتجاهات في البر والبحر، والمزاول الشمسية والمائية لقياس الوقت، والمباني والكهوف التي كانوا يستخدمونها لمراقبة النجوم، وأسماء النجوم والمجموعات النجمية التي تنسب إليهم مثل (بيت القوس، المنكب، الحزام، السيف، رجل الجبار)، والنقوش المبثوثة هنا وهناك في المدينة، وهذا التقدم الفلكي يستند إلى تقدم ضروري مؤكد في علوم كثيرة ذات علاقة ومن أهمها، الرياضيات والفيزياء والهندسة، ويدل على ذلك أن الخزنة، وهي من أهم معالم البترا، كانت تضم آلاف المخطوطات في شتى العلوم، ولكنها مفقودة. والعودة إلى دراسة علوم الأنباط ليست من باب التوثيق والترف العلمي فقط، بل للاستفادة من أساليبهم وطرقهم وعلومهم التي «سخروها للتغلب على مشكلات حياتية حقيقية واجهتهم، وما زلنا نواجه بعضها إلى اليوم».

وتشير الرواية إلى أنه من الصعب تغيير النظرة الغربية السلبية السائدة حول حضارات المنطقة العربية، خاصة بوجود من يرفضون ذلك بين الباحثين العرب لغايات مشبوهة، وخدمة لأسيادهم في الغرب، متذرعين بالمراجع والكتب العالمية، التي تروج لهذه النظرة القاصرة، التي يعتمد عليها الجذب السياحي، وما تثيره من رغبة في اكتشاف سحر الشرق وغموضه.

تواصل الحضارات

تناولت الرواية جانبا من الحضارة المصرية العريقة، وأظهرت المكتشفات والتنقيبات، عن تواصل مؤكد بين الحضارة المصرية وحضارة العرب الأنباط، وتأثر كل منهما بالأخرى، ويبدو أنه كان بينهما نوع من التعاون والتواصل وتبادل العلوم والمعارف، خاصة الفلكية منها؛ فالحضارتان متجاورتان، ومن الطبيعي أن تكون بينهما صلات في المجالات كافة، وظهر هذا جليا في تشابه الأدوات المستخدمة في الرصد الفلكي.

وتواصل الحضارات يشير إلى حقيقة في غاية الأهمية؛ بأن هذه الحضارات كانت مرنة ومنفتحة على الآخرين، ولا تمانع في الاستفادة من الغير. وهذا الانفتاح والتواصل يعني تنقل شعوب الحضارتين، من خلال العلماء والتجار والسياسيين والصناع المهرة وغيرهم. ولا يقتصر هذا التواصل بين الحضارتين المصرية والأنباط، بل بين جميع حضارات المنطقة، والحضارات الأخرى التي يرتبطون معها بعلاقات تجارية نشيطة في تلك العصور، مثل اليمن والحبشة وبلاد فارس والروم وغيرها.

وتثير الرواية قضية في غاية الأهمية، وهي سرقة الآثار والمكتشفات وتجييرها لحضارات الغرب وإنجازاتها، ولذا؛ على الباحثين المخلصين، أن يبذلوا جهدهم لإعادة الحق إلى أصحابه، ونسبة هذه الإنجازات إلى صناعها الحقيقيين، وإنصافهم، بالأدلة القاطعة، والأبحاث العلمية الرصينة.

وكما تواصلت حضارات المنطقة قديما، ربطت الرواية بين الباحث معمر ابن البترا والباحثة سونيا من مصر، اللذين تعاونا من أجل إعادة الاعتبار لحضارات المنطقة القديمة، من خلال الأدلة العلمية والمكتشفات التي تثبت ذلك، وسعيهما الحثيث لإعادة بناء مرصد فلكي ضخم على غرار مرصد الأنباط في منطقة البيضا في البترا، التي تتميز بارتفاعها وصفائها وبعدها عن التلوث.

إحياء المكان

تبقى أمكنة الأسلاف ميتة بانتظار أن يحييها أحفادهم ذات يوم، ولا يمكن أن تحيا هذه الأماكن، من دون أن يحبها الأحفاد، ويخلصون لها، ويرون فيها جذورهم وماضيهم العريق، وأنه لن يكون لهم مستقبل واعد مشرق، من دون أن يعيدوا اكتشاف جهود أسلافهم، والتنقيب عن آثارهم، ومعرفة جهودهم وما تركوه من علوم ومعارف، ما زال معظمها مخفيا أو مفقودا، ينتظر أنباطا جددا، يؤمنون بتفوق أسلافهم، وأنهم تركوا لهم ثروة عظيمة ما زالت مخبوءة، ولن تعطي سرها إلا لمن يتماهى مع المكان، ويعشق المكان، ويمتزج روحيا بالمكان، ويعيد تصوره وتخيله في صورته القديمة الساطعة البراقة، يوم كان يشع نورا وحضارة ونفوذا ومعرفة وإنسانية، و«منارة سماوية يرتقي بساكنيه نحو النجوم».

المكان كالأرض لن تعطيك وتمنحك خيرها وكنوزها، ما لم تحبها وتبذل جهدك وتخلص لها، وكذلك الأسلاف لن يمنحوا مفاتيح حضارتهم وتراثها العظيم إلا لمن آمن بهم وبعلومهم وجهودهم، ورأى نفسه امتدادا لهم. ومن هنا، أهدت الكاتبة الرواية إلى أحد أبناء المدينة الوردية، النبطي المنشود؛ الباحث «مأمون النوافلة»، الذي وهب عمره وحياته للبترا؛ باحثا ودارسا ومنقبا ومتفكرا، «إلى أن باح له المكان بأسراره العظيمة».

تعلق بطل الرواية «معمر» بالبترا منذ صغره، وشغفته حباً، «وبقي الفتى على مرّ الأيام منجذباً إلى هذا المكان الساحر كما ينجذب الصوفي إلى محرابه، يتأمل فيه، ويشعر، ويحب، ويفكر، حتى بلغ أشده، وصار رجلا قويا صلبا، لا يهاب شيئا، لكنه على حاله مع المكان؛ لا يتركه حتى يعود إليه بلهفة وشوق». فقد عرف الطريق، واستجاب لنداء الأسلاف، فعمدوه نبطيا وفيا من أصلابهم، ولذا، باح له المكان بأسراره، وكشف له كثيرا مما كان مجهولا، وتفتحت أمامه الأبواب ومغاليق الأقفال، واستطاع بجهوده الفردية، وبالتعاون أحيانا مع بعض المخلصين، خاصة سونيا التي ارتبط معها بالزواج، أن يعرف كثيرا من غوامض المكان، ويتوصل إلى مفاتيح العلوم والمعارف النبطية، وسعى بجهد وعزم أن يعيد رواية قصة المكان على حقيقته الساطعة الرائعة، وليس كما يريده الآخرون، الذين لا يروقهم أن تكون للشرق حضارة كان لها دور عظيم، وفضل على العالم.

وبعد؛ فإن «النبطي المنشود» للروائية صفاء صبحي الحطاب، رواية تراهن على الوعي بأهمية حضارة الأنباط، وتقدمها العلمي، وأنه لا بد أن يظهر من بين أحفاد هؤلاء الأسلاف العظام، من يعيد اكتشاف حضارتهم المجهولة إلى حد كبير، خاصة علومهم المسطورة في المخطوطات، وآثارهم التي ما زالت برسم التنقيب والاكتشاف في متاهات المدينة الواسعة وما جاورها. والرواية بالإضافة إلى غايتها الواضحة في تسليط الضوء على حضارة العرب الأنباط، إلا أنها لا تهمل الجانب المعرفي، والفن المعماري، وعظمة المكان وتأثيره، وضرورة ربط الحاضر بالماضي، واستثمار المكان علميا، وأهمية تضافر الجهود وتعاون المخلصين لإعادة اكتشاف المكان وإحيائه. وتجدر الإشارة إلى أن الرواية كتبت بلغة جميلة، ولم تهمل فنيات العمل الروائي الإبداعي، بما فيها من تخييل وسرد ممتع، وحبكة محكمة، ونهاية مفتوحة مشرقة بالأمل.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي