حسن داوود
هي قصة طويلة أو نوفيلا قصيرة، تلك التي تنتهي بها مجموعة أحمد مجدي همام ألقصصية. «الاتجاه الخطأ» هو عنوان القصة هذه، التي تستغرق فصولها نصف عدد صفحات المجموعة. سيكون علينا أن ننتظر آخر ما يجري من أحداث حتى نصل إلى ذلك الولد الذي يقول إن الرجل الذي اسمه هاني يصوب مسدسه نحو رجل آخر هو عاشور، فيما مقدّمة جيش العدو تلوح متقدمة في اتجاههم. هو ختام شعائري ومغرق في عاديته لأحداث متسارعة اختلط فيها التنافس والحسد والفقر المدقع، الذي بات البيت الواحد فيه مسكنا لعديدين، لا صلة تجمع بينهم، والأرض لم تعد تُنبت ما يؤكل، وصار ما يُصطاد أنواع حيوان لم يكن لحمها يوضع على مائدة من قبل. مرة واحدة أو مرتين أمكن تناول لحم ماعز، أما ما تلا ذلك أو سبقه فتبدّل بين أن يكون كلبا أو أرنبا أو قطة أو حتى أفخاذا بشرية، إلخ.
وقد تدرّج مجيء الخراب في القصة، بدءا من الخلع المتدرّج لذاك الذي اسمه هاني من شغله. مثل موظف عادي في مؤسسة خاصة كان عليه أن يشهد الخطوات المتتالية التي ستتركه بلا دخل ولا عمل. هو لا يستطيع دفع فواتير الكهرباء المتأخّرة، مثلما يحدث لموظفين مثله، ثم سيضطر إلى بيع سيارته الصغيرة، ثم التفكير تاليا بممارسة الصيد ليقتات، لكن صيد السمك، هذا الذي سيبقيه، حتى حينه، شخصا مقيما في مدينة. لكن لن يتأخر التحول إلى التوحش، التدريجي أيضا، وذلك بعد قبوله تأجير قسم من بيته لعاشور، الذي كان موظفا أدنى رتبة منه، وفي الشركة الخاصة ذاتها، ما يجعله أكثر سرعة في الوصول إلى درك اصطياد حيوانات غير مألوف أكل لحمها. وما أدى إلى هذا الانهيار في التمدن أمور ذات طبيعة مفهومة، كانهيار الاقتصاد وإفلاس الدولة من ثم. ومن جهة أخرى تظهر الحروب في القصّة كأنها من لا مكان، هكذا دون أن نعلم أيهما أدّى إلى الآخر، الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، أو الحرب، إنهما يحضران معا بالتناوب ليكملا المهمة ذاتها. وإذ يسعى القارئ إلى ترتيب الأدوار بينهما، عليه أن يستعين بما يجري في بلدان تَلازم في حاضرها وجود الحرب والخراب: لبنان مثلا، أو سوريا أو العراق، إلخ.
على أي حال لا تذكر القصة ما هو البلد الذي تجري فيه وقائعها، ولو بالتعيين الرمزي، أعني بذلك أن يصنع الانسجام الوصفي والحدثي في تعيين بلد، أو تكوينه بالمعنى القصصي أو الروائي. البلد الذي يخرب هنا ويُقصف وينهار لم يطلق عليه اسم، ولا اسم أطلق على شيء فيه، بما في ذلك الحي الذي يقع فيه البيت، وهو الإطار المكاني الذي جرت فيه الأحداث على اختلافها. كما لم يُتعيّن الزمن. من ذلك مثلا أننا، بعد التقدم في متابعة الأحداث، نجد أن وجود ساعٍ لتوصيل فواتير الكهرباء أخذنا إلى زمن لم تلبث القصص أن أرجعتنا عنه في ما تلى من تقدّمها، أو أنها، هي القصص، أجرت لنا دورة الزمن عكسيا أو بالمقلوب. وهو زمن افتراضي لا نتوقّف عن التساؤل، فيما نحن نقلّب تلك الصفحات القليلة، إن كان الكاتب يصف حالنا ويدعونا، في الوقت نفسه، إلى التفرّج على أنفسنا. وفيما هو يفعل ذلك لا يتوقف عن إضحاكنا بعقده الجمل التشبيهية بين خدمة المرأة (سلام، وهي المرأة الوحيدة في القصّة، ولذلك يجري التنازع عليها ضاريا بين الرجلين المتعايشين معها) للبيت، طبخا وتنظيفا، أي «الخدمة مقابل الإيواء» مقابل الجملة الشائعة التي يستعيرها الكاتب هي «النفط مقابل الغذاء». وفي الوقت نفسه، وبالتلازم مع سرده المتنقل، والسريع بالنظر إلى رغبته في جعل قصته مشبعة بحوادثها، حتى الاقتراب مما يحتويه عمل روائي كثير الفصول والصفحات، نقرأه يبدّل الرواة ويعدّدهم. فمرة الراوي هو هاني متكلما عن نفسه وحياته، وفي مرة أخرى، في الفصل الذي يلي، يتولى راوٍ مجهول الكلام عن حياة المرأة «سلام» فيبدو كأنه يخاطبها متعاطفا ومحذّرا في الوقت نفسه. ثم، في فصلٍ تالٍ يعود الكلام إلى راو مجهول أيضا، لكنه هذه المرة يبدو مثل حكّاء يصف لنا ما يشاهده، دون أن ينحاز لأحد ممن يروي عنهم.
وفيما هو يصف حالنا بطريقته الافتراضية، يدعونا الكاتب، وعلى الأخص في قصص ضمّتها مجموعته، إلى أن نعمل التفكير لنصل إلى ما تأخذنا إليه القصص في رمزيتها. كأن نتساءل، في قصة «خدعة همنغواي» إن كان العالم الذي انبنى على كتاب «الشيخ والبحر» للكاتب الأمريكي قائما كله على التخيل والاستيهام من قِبل الفتاة العاشقة، كما نتساءل عما يمكن الوصول إليه من تفسير لواقعة ابتلاع محتقر العملة لسبيكته الذهبية. كما سيكون على القارئ أن يلم َتفرّعات الرمز المحتملة في ما خص ذلك الرجل المحذّر من إمساك عود الكبريت مشتعلا واحتراقه هو في ختام قصّته.
صدرت مجموعة أحمد مجدي همام «خدعة همنغواي» عن دار العين للنشر في 126 صفحة سنة 2024.
كاتب لبناني