سردية التواصل والتفاعل في رواية «شوينغوم»

2024-06-29

محمد تحريشي

يتخذ الكاتب أمين الزاوي من سردية التواصل والتفاعل خاصية فنية وقيمة جمالية واتجاها فكريا، وهو يروم كتابة تفتش عن المسكوت عنه وما تنساه الذاكرة وما غفلت عنه كُتب السير واليوميات. يكتب النص لنفض الغبار عن القارئ، ويدفعه إلى التفكير ويؤمن بالاختلاف ويؤسس له، ويعوّل كثيرا على ما يمكن أن نسميه سرد الأم، هذه الأم دائمة الحضور في كل ما يكتبه هذا الكاتب، وهو الذي يرى أن الأم هي أكبر سارد، وأغلبنا يعيش على زمن ما كانت أمهاتنا ترويه لنا من قصص وحكايات واقعية وخيالية، ومما تتوارثه الأمهات من أمهاتهن. قصص عن الحب والتضحية وفعل الخير الذي ينتصر صاحبه دوما على الشر. حكايات هي بمثابة رجع الصدى في المجتمعات البشرية، وفي حالات هي مشتركة بين الكثير من الأمم والشعوب، ومنها تُستخلص الكثير من الدروس والعبر.

صدر لهذا الكاتب أكثر من خمس عشرة رواية باللغة العربية ومثلها باللغة الفرنسية. رواية «شوينغوم» صادرة عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف سنة 2022، وتقع في 223 صفحة.

يشكّل حضور الأم في كتابات أمين الزاوي حضورا لافتا للنظر على سبيل الواقع، أو على سبيل الخيال، وتكاد تكون الأم هي المرجع والمحفز والمحرّك للأحداث. بل هي تحضر حتى في عتبات هذا النص؛ «قالت أمي: اللّي يتزوجْ الزينْ لازمْ يكون لُو أكثر من عينينْ» ولعل هذه العتبة هي المفتاح قد يضعنا في مواجهة هذا النص، فقد يهدينا إلى الحكاية، كما قد يكون مضللا لنا بنوع من التعمية حتى نجتهد أكثر في سبيل الكشف عن علاقة هذا القول بالقصة ها هنا. ومن ثم يوطّن الكاتب حكايته مكانيا وزمانيا حتى يضع القارئ في الصورة. إن رواية «شوينغوم» تجمع بين أزمنة ثلاثة. زمن الحرب العالمية الثانية ونزول الجيش الأمريكي في وهران وفي بعض الأماكن في الغرب الجزائري، وتعرّج الرواية على الثورة التحريرية لربط الماضي بالحاضر. تتخير المشاهد والأحداث لتبني وقائع ثقافية من خلال مسرحية «هيت لك» وفيلم الرسالة، كما تتزاحم الذكريات وتتداعى على صفحات الرواية؛ فمنها من اختارها الكاتب قصدا، ومنها تلك التي فرضت نفسها عليه في نوع من الحنين والتذكر والاعتراف بالجميل. ومن باب استثمار هذا الاستحضار في البناء الدرامي للرواية؛ ولما كانت هذه الرواية تتداخل مع المسرح، فإن الكاتب استحضر شخصية نورالدين فارس من قسم الفنون الدرامية في كلية الآداب من جامعة وهران، «اقتربت من طاولته وسلمت عليه، رد التحية بكثير من الود، ثم طلب مني الجلوس، وكأنما هو الآخر كان يراقبني، ولم ينتظر سوى أن أخاطبه، جلست، قدمت له نفسي طبيبا متخصصا في أمراض النساء. قال لي إن اسمه نور الدين فارس، وإنه أستاذ في جامعة السانية كلية الآداب، قسم المسرح والنقد المسرحي، وبمجرد بدايته في الحديث اكتشفت من لهجته أنه من العراق، وعرفت أنه هارب من آلة الإعدام التي نصبها صدام حسين لخصومه من الشيوعيين والمثقفين التنويريين، بدأ يحدثني عن تجربته في مسرح بغداد، وعن حبّه لغارسيا لوركا، خاصة مسرحيته (بيت برنارد آلبا) التي أخرجها مرات عديدة في بغداد، في الجامعة مع طلبته وفي المسرح القومي، ومسرح العمال».

إنّ الكتابة التواصلية التفاعلية قد تؤسس لقارئ ينشد الاختلاف والاعتراف بوجود الآخر المختلف بنية وفكرا وأيديولوجية. ولا تمانع في وجود خصومة مع بعض القراء إنْ وقع الاختلاف. وتقوم هذه السردية ها هنا على تحريك الوجدان والمشاعر في عملية التواصل بين النص والقارئ، بالوقوف عن قضايا حساسة قد تثير في النفس نفورا، أو غيظا أو تذمرا، وتحرّك في الذات مجموعة من الأسئلة حول السر من وجودها في النص، ما الذي تقدّمه للنص، وكيف تسهم في أدبية هذا النص وتزيد من عملية التذوق الأدبي؟

إنّ من تجليات سردية التواصل والتفاعل في هذه الرواية عملية القتل، ومنها قتل الحيوان، على الرغم من الفائدة المرجوة من هذه العملية للانتفاع من لحم هذا الحيوان، «اختفى صوت عبد الباسط عبد الصمد من رأسي، وعادت صورة خالتي صفية عمران وهي تخاتل الديك النواري فتقبض عليه، وتدير رأسه جهة القبلة وتذبحه، ثم تلقي به على الأرض منتفضا في دمه، ومن حوله إخوته الدجاج وابناؤه الكتاكيت ينقرون في هناء حبوب الشعير وبقايا الخبز، والنخالة المعجونة بالماء والمخلوطة بحفنة طحين أسود»، يتكرر ذكر هذا المشهد أكثر من ست مرات في هذا النص، وهذا ما يجعل القارئ يتساءل عن السبب؛ لماذا الراوي يفعل ذلك، وهل هناك علاقة بين تكوين هذا الراوي وموقفه من هذه العملية، «أنا هامان بن زياد، حفيد طارق بن زياد.. وإني أراقب المشهد بدقة، وأن منظر الديك النواري المذبوح المنتفض في دمه يسكن خواطري، التي تشبه الزوبعة، فيتمنع مظهرا عكس ما يبطنه.. أنا الصحافي والشاعر والمثقف اليساري، الذي قرأت كتب لينين عن الفن والحياة والسياسة والصراع الطبقي وثورة البروليتاريا، وقرأت ألتوسير وبابلو نيرودا وناظم حكمت، وعزيز نسين وماياكوفسكي وكاتب ياسين ومولود معمري، انا الذي لطالما رددت أمامها منذ أن اختارت أن تلتحق بالمعهد العالي لفنون العرض – تخصص تمثيل: أنا رجل لا يغار، وعقلي قبل قلبي، القلب متاهة، المثقف العضوي لا يتبع قلبه». إنّ الربط بين هذه المعطيات لدى القارئ وبين مشهد ذبح الديك وبين مرجعية الرواية يولّد مجموعة من الأحاسيس والمواقف تنقل القارئ من حالٍ إلى حال مغاير. ولعل السردية هذه هي المرغوب فيها للوصول إلى التغير والتحول والتبدل في السلوك والتفكير والذهنية.

تقوم سردية التواصل والتفاعل ها هنا أيضا على رسم مشاهد للقتل، وقد يكون القتل مشروعا كما في الحروب، ولكن الرواية تقف عند قتل الأخ من باب الحسد والحقد والغل، وهي من الأهواء التي تحرّك ردة فعل لدى القارئ وجدانيا وذهنيا. «هذا ما قلته لأمي فاطنة عمران، ونحن نشرب قهوة العصر، فغضبت منّي غضبا شديدا.. كنتُ أتمنى لو لم أكن توأم أخي مصطفى؛ لأنني بصراحة لا أحبه! وربما لأنني لا أحبه قد مات ولم يبلغ السابعة. في المقابل كنت أحلم لو أنني وُلدت توأما لأخي سيدي مومن، الذي يكبرني بعشر سنوات تقريبا، والذي يبدو عليه أنه لن يموت أبدا! وهو الذي تفضله أمي عنا جميعا، ذكورا وإناثا، تحبه حتى أكثر من الله ومن السماء».

إن هذه الحال تكشف عن أن الحسد قد يؤدي إلى تشتت العائلة، وإلّا كيف تقوى الرغبة في قتل الأخ؛ «كلما نظرت إلى نفسي في المرآة، شعرت كأنني انا الذي قتلت أخي التوأم مصطفى الذي لا أحبه، حين أحدق في عيني أكتشف المجرم فيَّ». يتكرر مشهد الرغبة في قتل مصطفى مرات عديدة في الرواية. وانتقلت هذه الرغبة في قتل هذا الأخ، في ما بعد، إلى قتل الأخ الأكبر سيدي مومن، «يوما بعد يوم، أشعر بأن وجوده الطاغي هذا يخنقني، يسحقني، أمامه أتحول إلى نملة أو حشرة لا اسم لها، باستطاعته أن يسحقني بقدمه أو يفركني بين أصبعيه. حضور سيدي مومن الطاغي ـ الذي زاحم الجميع، ومن بينهم والدي- جعلني أفكر في اغتياله، الاستراحة منه، خنقه بالوسادة وهو نائم…». ولأن سردية التواصل والتفاعل تقوم على مخاطبة المشاعر والأحاسيس ومحاولة التأثير فيها لتغيير السلوك، فإنّ رواية «شوينغوم» تستفيد من تقاطعها مع المسرح من خلال مشاهد مختارة بعناية من مسرحية «هيت لك»، التي تثير في القارئ أكثر من سؤال حول الغاية من هذا التوظيف المرتبط بالسياق القرآني، «هذا المساء سأحضر العرض العشرين لمسرحية (هَيتَ لَكَ)، لست متيقنا أنه العرض العشرون. تعرف المسرحية نجاحا كبيرا على مستوى التغطيات الإعلامية في الجرائد المحلية والوطنية وإقبالا جماهيريا مميزا، العدد الكبير من الذين يجيئون لمشاهدتها كل مساء، يعتقدون أنها مسرحية عن قصة النبي يوسف عليه السلام، أجمل الأنبياء جميعا، يقال: إن الله حين خلق الكون منح يوسف ثلاثة أرباع الجمال، والربع الباقي وزعه على خلقه أجمعين، البعض الآخر أيضا يعتقد أنها قصة أهل الكهف والبعض الآخر- وهو الذي زرع الشك فيّ يقول إنها مسرحية مأخوذة من فيلم الرسالة، للمخرج مصطفى العقاد. المدينة أغرقها التدين، وخلت من الدين».

كاتب جزائري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي