أنطولوجيا اليد لمحمود هدايت: نحو ميتافيزيقيا جديدة وإبداع للمفاهيم

2024-06-05

أوس حسن

عندما نطالع شخصا ما قاصدين تأمله والتفرس في ملامحه؛ فإن أبصارنا أول ما ستقع عليه ملامح وجهه وعينيه، وحركات جسده ككل متكامل. إن الجسد هنا له بعد فينومينولوجي على حد تعبير الفيلسوف ميرلوبونتي، فهو أداة للتواصل مع الآخرين من ناحية الرغبة في الوجود، والرغبة في المعرفة. أما فيلسوف الغيرية إيمانويل ليفيناس فقد اعتبر العلاقة مع الذوات والموجودات الواعية تبدأ بالوجه، لكن ليس الوجه المادي والتجسيمين الذي يملكه الإنسان، وإنما البصمة الفردية المختلفة، والهوية الروحية لأعماق الإنسان وما تحويه من رموز وإيحاءات تجعل من هذا الوجه تجليا للمطلق وانكشافا مستمرا على اللاتناهي.

قبل فترة وقع بين يديّ كتاب غريب من نوعه، لافت للنظر ومستفز للفكر؛ كان عنوانه «أنطولوجيا اليد» للصديق المسرحي والناقد السينمائي العراقي محمود عواد المعروف بمحمود هدايت.

يمزج الكتاب بمهارة أسلوبه وتراكيبه اللغوية المستحدثة خلطة عجيبة ومتنوعة بين السينما والمسرح والشعر والفلسفة، مجردا إياها من أي مركز أو أصل، وكأنه يلعب بجذامير دولوز ومساربه المتشعبة؛ ففي كل نص هناك سيمولاكر منحرف يستحوذ على النسخة الأصل بقوة اختلافه وانحرافه وشذوذه، إنها قوة الهامش، بل هو هامش الهامش، إن صح التعبير، لتغدو اليد هنا ليست مجرد أنطولوجيا، كما أراد لها الكاتب أن تكون، وإنما أنطولوجيا متعالية غير مفكر فيها في حقل المفاهيم الفلسفية، فاليد التي تبتكر وجودها الخاص وزمنها الخاص تنفصل عن الإنسان وعن العالم المادي المحسوس، إنها ثورة الدال على المدلول، قطيعة بين اللغة والأشياء. فلا جامع لهما سوى التنافر والانفصال والجنون، والحرب الميتافيزيقية الضاجة بصراخ صامت. يتلمس محمود هدايت الغياب من خلال الأثر الذي تتركه في الأشياء: «لماذا تنسى اليد غيابها في الأشياء؟ في الموت وحده ترانا اليد ولا نراها؛ فلا شاغل لليد سوى أن تعمق اتصالها الدائم بموتها الكامن في الأشياء».

وعن اليد التي تنفصل عن الوجود والزمان والحركة يقول عواد: «لا تلوح اليد، وإنما تودع شفافيتها في صمت داكن، لا تكتب اليد وإنما تمرن صمتها على الغرق في هيئة مستحيلة. لا تولد اليد مع الجسد، لكل منهما زمن ولادته وطقس ملامحه، فعند الإمعان في سكونها وحركتها سترى أن اليد ولدت من النفس الأول لآدم».

لكن يبدو أن هناك يدا غابت عن الكاتب، وهي يد جمعت التفكير والكتابة والقتل، إنها يد المفكر والفيلسوف والمجرم الفرنسي لوي التوسير، الذي قتل زوجته هيلين خنقا في نوبة من نوبات الجنون. ترى ماذا فكرت هذه اليد وهي تمتص داخل عروقها آخر نبض في عنق هيلين؟ وكيف انتهت الماركسية والبنيوية إلى جريمة قتل، أليس موت المؤلف يعني قتله عمدا من قبل الفيلسوف؟ أما جيل دولوز فقد ظل محاصرا بميتافيزيقيا عواد وجنونه حتى قبيل انتحاره، فاليد ظلت متحركة وفاعلة على أرضية الحدث؛ لأنها ما زالت تتحرك الآن وفي المستقبل كما في الماضي، من خلال ظلالها، وسحر غيابها في الأشياء، يقول عواد هنا «ما الذي لمسه جيل دولوز بيده قبيل أن ينتحر؟ وفي أي حركة تابعت يده انقضاضها على حواف النافذة في ظهيرة شهدت احتشاد العدم في قفزة الحب تلك الحاملة لبياض الزمن، أي هواء هذا الذي يخدش اليد ولا يمسها؟». لم يغفل عواد عن الأسئلة اللاهوتية الكبرى، فالكون برمته صار يدا لامتناهية، وخلف كل يدٍ على هذه الأرض تختبئ يد الله، «أين اختبأت يد الله بعدما نفخ الروح في آدم؟ في أي متحف استقرت يد الله بعد أن أكمل بورتريهه الشخصي؟» وهنا لا بد أن أشير إلى آيات من القرآن أجابت على ذلك النداء الخفي الذي يخدش رعب الأبدية والملكوت؛ فقد ورد في الآية الخامسة من سورة الزمر: «والسموات مطويات بيمينه». كذلك في الآية الثالثة من سورة يس: «أو لم يروا أنا خلقنا مما عملت أيدينا أنعاما» وأيضا في الآية الثانية من سورة ص: «يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي».

وجود مضاعف

إن قوة التركيز والتأمل العميق في شيء من الأشياء، تفتح مداركنا الحسية على وجود مضاعف ومزدوج، وعلى حواس مكثفة، فلا نعود نرى العالم، كما كنا نراه سابقا، وما حصل مع محمود عواد هو هذا التركيز الذي جعل العوالم مزدوجة ومضاعفة، فاليد هي التي تفكر وهي التي تكتب وهي التي تنتحر، وهي التي تخلق وتدمر، وهي التي تخلق لنا الزمان والمكان، وتفتح لنا ستار البصيرة الإلهية، إنها يد الشاعر والفيلسوف، يد المنتحر والقاتل، إنها يد الله ويد السرمدية في الزمان. بهذا لا بد أن تغادر يد محمود عواد أنطولوجيا الوجود البشري، لتغدو مفارقة ولا مرئية، من خلال الجنون وحده، وعليه يمكننا أن نبدع مفهوما جديدا موازيا، وهو ميتافيزيقيا اليد، الذي أراه أكثر دقة من ناحية المفهوم والدلالة، إذا أردنا لاشتغالنا أن يكون فلسفيا محضا.

ميتافيزيقيا اليد والجنون

كانت ليد المجنون النصيب الأكبر في نصوص محمود عواد، فالعالم الذي يطفو على العبث وتمزقه التناقضات، لا يمكننا أن نفهمه، إلا من خلال إيقاع الهذيان والجنون وصرخات التمرد. إن العالم الذي نراه هو خاصية مشتركة لعقولنا ومداركنا، فهو يتبدى لنا كما هو مرصود من قبل حواسنا، لكن ألا يغير العالم من طبيعته عندما لا يكون مرصودا، ألا توجد هناك ألوان وأشكال وكائنات لا اسم لها، ألا يمكن أن تنفتح بوابات النجوم في عالمنا على امتدات لامتناهية تتحد داخلها الأبعاد الزمنية في ومضة الحاضر الأبدي؟ ربما هذا ما يراه المجنون الذي ظل عالقا عند نقطة في الزمن، فيتعرى العالم من أسمائه ولغته وأحاسيسه البشرية، وهنا يسحبنا عواد إلى دوامة الكاوس، الذي لا نعرف له قاعا ولا مستقرا ولا مخرجا، إلى الظلام الذي ينكر سواده، وإلى أحجار تسيل صلابتها في الهواء، وإلى هاوية يتعانق فيها الرعب واللذة؛ فيخرج المجانين من أجسادهم الفانية ومن ماديتهم، إلى وجود شفاف كالمرايا والدموع. يقول عواد: «في الهزيع الأخير من الليل، يخرج المجانين من أجسادهم بحثا عن أثر الحواس العالق في ذكريات الهواء، ما شيفرة الماء الذي يشربه المجنون، ولماذا يتأمل القدح كما الحجار قبل إيصاله لفمه، كيف يرى المجنون يده وهي تكتب ما لا يرى إلا بيده؟ ماذا قال الحجر لصوته من بعيد؟ وحدها يد المجنون من تعلم». يشكل المجانين حلقة وصل مشتركة مع الأحلام والأساطير عندما يحاول كل منهما أن يبحر في البواطن المظلمة لعالمنا، وأن يمسك بيديه أسرار الوجود اللامرئي، فيغدو الزمان والمكان ملموسين ومقروئين تماما كصفحة مطوية في كتاب الخلق أو في نسيج الزمكان. «لا يتعرف المكان على تماكنه في النهار، بل في الليل وحده يدرك سر ذلك، إذ هو بحاجة لمن يقرأه، وليس لمن يراه. وليس سوى المجانين تنطبق عليهم تسمية القراء الليليين؛ فثمة روايات لا تُقرأ إلا بأقدام أسطورية، تلك التي لا تتوفر إلى في المجنون».

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي