مشاهدات أول طالب مغربي في الصين: استحضار الماضي في الحاضر

2024-05-28

نورالدين بلكودري

حصل كتاب «هكذا عرفت الصين، مشاهدات أول طالب مغربي» لمحمد خليل على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة هذه السنة، صنف الرحلة المعاصرة، وقد صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بتعاون مع مؤسسة ارتياد الآفاق، ويتضمن هذا النص الرحلي، أحداثا ومحكيات وذكريات تغطي أكثر من أربعة عقود من الزمن، حيث هاجر محمد خليل الطالب المغربي أواخر السبعينيات لمتابعة دراسته العليا، مستفيدا من منحة دراسية عن طريق مديرية تكوين الأطر، واختار تخصص الطب، وهو الذي لم يكن يرغب يوما في مغادرة الوطن، لكن كان للقدر كلمة أخرى، حيث سيضطر إلى السفر إلى أقصى الكرة الأرضية ليحيي بذلك أمجاد الرحالة ابن بطوطة.

اختار الكاتب الرحالة استعادة الماضي بعد سنوات وتدوين رحلته، التي تتضمن رحلات أخرى إلى بلدان في آسيا وأوروبا، قام بها خلال العطل، لكنه سيتخذ من الرحلة إلى الصين الإطار العام الذي يحوي باقي الأسفار، وكما يصرح في أكثر من موقع داخل كتابه، أن الصور أسعفته كثيرا في حفز الذاكرة على استرجاع الماضي والحكي عن الذي كان في سفره الأول إلى الصين أواخر السبعينيات، وفي عودته إليها بعد أكثر من عقد من الزمن، وفي أسفاره اللاحقة التي كانت ترتبط بعضويته في جمعية الصداقة والتبادل المغربية الصينية، وحصوله على أرفع وسام من الرئيس الصيني «شي جين بينغ» نظير أدواره الفعالة في تعزيز العلاقات الثقافية بين المغرب والصين، وإسهاماته الكبيرة في تعميم الطب التقليدي الصيني بعد أن فتح عيادته في المغرب التي جمع فيها بين الطب الغربي والعلاج بالوخز بالإبر.

صرّح الأستاذ الصيني أ.د. وانغ يويونغ، أن هذا الكتاب يشبه الفيلم الوثائقي، وفعلا تتحقق شروط هذا النعت في كتاب محمد خليل، فعلى امتداد صفحاته يجد القارئ نفسه مشدودا إلى الأحداث المتعاقبة والمتداخلة المرتبطة بالمسيرة العلمية للرحالة وبالتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عرفتها وتعرفها الصين، وبما أن الرحالة الكاتب يعتمد الذاكرة، وبعض الصور لاسترجاع الماضي فإن الرحلة المتحققة فعليا من طرفه تتحول إلى رحلة قرائية ممتعة تمنح القارئ مساحات وهوامش شاسعة للتعرف على أبرز المحطات التي جعلت الصين بالصورة التي هي عليها اليوم. يتحول الكتاب بذلك إلى خريطة طريق كاشفة للاستراتيجيات الفعلية التي تم اعتمادها للنهوض وتحقيق التقدم في جميع المجالات.

إذا كان الطالب محمد خليل قد سافر إلى الصين في إطار منحة جامعية، إلى بلد لا يتقن لغته، فإن النص الرحلي، يكشف بعدا آخر مميزا لشخصية الرحالة، فرغم الصعوبات التي واجهها في بداية مساره العلمي لم يستسلم وآمن بقدراته، وحقق أحلامه، كافح لإتقان اللغة الصينية، وثابر للنجاح في الامتحانات وتحمل إكراهات الثقافة والدين والعادات، تعايش مع الآخر وحرص على المحافظة على هويته الدينية، فرض نفسه بفكره وثقافته ووعيه السياسي وكان يشارك في المناسبات الوطنية والدينية في سفارة المغرب، ويحضر المظاهرات المنددة بهمجية إسرائيل ضد الفلسطينيين، ويحتفل بالأعياد الدينية ويعرف الآخرين بها، ويقدم صورة إيجابية عن الإسلام والمسلمين، دون تعصب أو تطرف، حيث صادق الجميع ومن مختلف الدول والديانات، وسافر مع زملائه ودخل بيوتهم وأكل طعامهم وكان حريصا على دينه، وكلما وجد الفرصة سانحة نشر قيم الإسلام وعرّف بها، وتبقى ذكرى دخول أستاذة للغة الإنكليزية إلى الإسلام بسببه من أكثر الذكريات تأثيرا فيه إلى الآن.

إن من يقرأ كتاب «هكذا عرفت الصين، مشاهدات أول طالب مغربي» يقرأ تاريخ الصين الحديثة، ويتعرف أهم السياسات التي قامت بها الحكومات المتعاقبة، ويكتشف أهمية منح الأهمية للعنصر البشري والاستثمار فيه، وأيضا يتأكد أن القيم المحلية هي الكفيلة بتحقيق التقدم والعمل الجاد هو السبيل الوحيد لمنافسة القوى الأخرى، والأهم هو الإيمان بالقدرة على النجاح، رغم الإحباطات والصعوبات والأزمات، وهذا ما فعلته الصين ويعبر عنه الكاتب من خلال استعراض أبرز المشاريع والأوراش الكبرى، التي راهنت عليها الصين وحققت من ورائها النجاحات التي كانت بالنسبة للبعض مستحيلة، وقد نقل الكاتب بانبهار التحولات التي عرفتها الصين، فهو كان يكتشف في كل زيارة طفرة مميزة، ويعبر عن إعجابه بالسياسات المعتمدة والعزيمة التي لا تلين للصينيين، وبما أنه ينتمي إلى دولة من دول العالم الثالث الذي كانت تنتمي إليه الصين يوما، فهو لا يتوقف عن المقارنة بينها وبين الدول العربية عموما، التي ما زالت تعيش أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية صعبة.

إذا كان محمد خليل قد سافر إلى الصين لمتابعة دراسته، إلا أن علاقته بهذا البلد تجاوزت هذه المهمة العلمية، حيث ربط علاقات مع الصينيين في مختلف مواقع المسؤولية وأسهم في ربط الجسور بين الصين والمغرب، وكان سببا في عقد شراكات اقتصادية وثقافية، استفاد منها المغرب خصوصا، واستثمر أيضا علاقاته في خدمة وطنه، وجلب هبات ومساعدات استفاد منها المرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة خاصة السرطان، ولم يدخر جهده في التعريف بالثقافة المغربية ويستغل كل فرصة للتعريف بالفرص المتاحة أمام الصينيين للاستثمار في المغرب، ويكشف الكتاب عن صداقات قوية ربطها الرحالة الكاتب بسياسيين ومثقفين ورجال أعمال من مختلف الجنسيات، منهم من مات ومنهم ما زالت صداقتهم ممتدة معه إلى الآن، ويمكن القول إن هذا الكتاب المكثف اختزل عقودا من الزمن في صفحات، لكن يتضمن محطات تاريخية حساسة أسهمت في بناء صين اليوم، كما أن التاريخ المغربي يحضر بدوره، لأن الكاتب رغم البعد كان يتابع أهم الأحداث التي تقع في بلده عن قرب من خلال سفارة المغرب، وكان يتفاعل معها ويعبر عن موقفه منها، خاصة قضية الصحراء المغربية والاضطرابات السياسية التي عرفها المغرب في الثمانينيات وكانت لأسباب اقتصادية وتدخلات خارجية.

يمكن اعتبار هذا الكتاب نصا رحليا معاصرا يحكي عن الصين بعين الآخر، والإنسان الصيني يمكنه قراءة تاريخه السياسي والاقتصادي والحضاري والاجتماعي من خلاله، فإن تكتب من طرف الآخر ففي ذلك رؤية مغايرة وتفسيرات واستنتاجات وخلاصات وقناعات قد لا تراها وأنت جزء من الهوية والمكان، فيبقى الآخر مرآتك الكاشفة، دون خلفيات أو أيديولوجيات أو رهانات نفعية، ولهذا يحفل النص الرحلي لمحمد خليل بالمواقف والرؤى والقناعات التي يمكن للصيني أن يرى ذاته من خلالها، وفي الوقت نفسه معرفة درجة الإعجاز التي تحققت على أرض الواقع، وهذا يمنح الإنسان الصيني ارتياحا ونشوة مبعثها عين الآخر القادم من وطن آخر، وهوية أخرى وجغرافيا مغايرة وكتب عنه بافتخار وحب، في تعبير ملموس عن الامتنان والتقدير لوطن بعيد له خصوصياته المميزة، لكنه احتضن الرحالة ومنحه الفرصة لبناء مستقبله وأسهم في تكوينه علميا واعترف بأدواره في التقريب بين الشعبين المغربي والصيني وفي إشاعة قيم التسامح والتعايش والتعاون.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي