ثائر دوري
تقع المذكرات في 892 صفحة من القطع الكبير، طبعت في مطبعة كوردمان في دهوك العراق وصدرت طبعتها الأولى عام 2022.
نبدأ من حيث انتهى كاتب هذه المذكرات، ففي الفصل الختامي يروي الكاتب قصة كتابة مذكراته بعد تشجيع من الأصدقاء، لتجاوز ظروف الحزن على فقد الزوجة وبعض الأصدقاء. ويشرح سبب التردد الذي انتابه. يقول:
«إن تدوين أستاذ جامعي لمذكراته قد لا يهم الرأي العام في بلادنا، لأن الناس تهمهم أعمال الرؤساء والقادة والملوك وغيرهم ممن يوصفون بالعظماء». وبالفعل اعتاد الناس على قراءة مذكرات الرؤساء والوزراء والسياسيين، ومن يسهمون في حركة التاريخ بشكل مباشر، أما أولئك الذين يعملون من الخلف في المجال الأكاديمي، الذين يساهمون بتغيير التاريخ بشكل بطيء، لكن ثابت، فلم نعتد على قراءة مذكراتهم. لهذا السبب بالذات تكتسب هذه المذكرات أهمية استثنائية خاصة بالنسبة للعراق. الذي أشاعت له وسائل الإعلام العربية والعالمية، خلال العقود السابقة، صورة واحدة موحدة مرتبطة بالحروب والمجازر والديكتاتورية، حتى كدنا ننسى أن هناك حياة أخرى في العراق، وأن هناك أناسا يأكلون ويشربون وينجبون ويتعلمون في المدارس والجامعات.
وإذا شبهنا الدولة، أي دولة، بثمر الملفوف فإن السياسة هي الطبقة الخارجية، تأتي بعدها عدة طبقات، وتعتبر الحياة الأكاديمية والجامعات من الطبقات العميقة للدولة. وهذه المذكرات التي يكتبها أكاديمي تقدم صورة للطبقة العميقة من الدولة العراقية، صورة للحياة الأكاديمية في جامعات ذلك البلد خلال العقود السابقة. فنشاهد جامعات راقية تُؤسس، وحياة أكاديمية تتوافق مع أرقى المعايير العالمية، مع انفصال شبه تام عن المستوى السياسي، فرغم حكم الحزب الواحد تسير هذه الجامعات وفق قوانينها الداخلية، بانفصال شبه تام عن المستوى السياسي. ولا يمكن اتهام كاتب هذه المذكرات بالانحياز، لأنه من مشارب أيديولوجية لا تتفق مع عقيدة حكام العراق في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. وهذا ما سيرد تفصيله أثناء عرض الكتاب.
الطفولة
ولد الكاتب في مدينة الموصل العربية الإسلامية، الواقعة في أقصى شمال العراق عام 1940. ومدينة الموصل هي العاصمة التاريخية للجزيرة التي تمتد من تكريت جنوباً إلى ديار بكر شمالاً وتحدها مدينة دير الزور شرقاً. ومن جغرافيا الجزيرة انطلق مشروع آل زنكي، الذي استعاد الوحدة السياسة للجزيرة مع الشام ومع مصر، ثم استعاد بيت المقدس على يد صلاح الدين. كما تعتبر مدينة الموصل إحدى أكثر المدن تضرراً من تقسيمات سايكس بيكو. إذ قُسمت الجزيرة بين ثلاث دول: العراق، سوريا، تركيا. كما أن الموصل عُزلت عن امتدادها الحضاري ـ التجاري في مدينة حلب، وأقفلت سايكس بيكو أهم طريق تجاري دولي يمتد من المتوسط إلى آسيا الوسطى، وهو طريق يفوق في أهميته قناة السويس ويمتد من إسكندرونة إلى حلب فالموصل.
يتحدث الكاتب بإسهاب عن طفولته في مدينة الموصل في أسرة من الطبقة الوسطى التي تعمل بالحرف التقليدية، وهي طبقة بدأت تنحدر اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب منافسة السلع المستوردة، وأيضاً بسبب تغير طرق الحياة والإنتاج والاستهلاك وكان والد الكاتب أحد المتأثرين بما جرى. وطفولة الكاتب لا تختلف عن طفولة أي طفل في مدينة عربية مشرقية نهرية، من حيث العادات والتقاليد وعلاقة الأطفال مع النهر. بدأ الكاتب حياة التعلم في الكُتاب، الذي كان يعيش عصر انحداره. بعدها انتقل إلى المدرسة الحديثة. يُفصل الكاتب في الألعاب البدنية القاسية والمشاجرات بين الأحياء السكنية وتحت راياتها وكذلك السباحة في النهر. أما الذكريات السياسية في مرحلة الصبا فهي أيضاً متشابهة مع ذكريات جيل كامل من عرب المشرق، من حيث تأثيرات القضية الفلسطينية على الوعي الجمعي والفردي للسكان، وأيضاً قضية الجزائر وجمع التبرعات لنصرتها.
في المدرسة الثانوية وجد الطلاب أنفسهم، كما في كل المدن العربية المشرقية، موزعين على ثلاثة تيارات حزبية متنافسة هي القومية، والإخوان، والشيوعية. وفي تقديري أن الصدفة البحتة وضعت كل طالب في خيار أيديولوجي مشى به طيلة حياته أو لمسافة ما، كما حدث مع الكاتب. فقد انتمى الشباب في ذلك الوقت حسب من احتكوا معه من الأصدقاء والأساتذة، فوجد الشاب نفسه إما قومياً أو شيوعياً أو من الإخوان المسلمين وكان يمكن لكل فرد ببساطة أن يكون في مكان آخر.. توزع أساتذة المدرسة على التيارات الثلاثة «فالأستاذ شاذل طاقة كان بعثياً، وإن لم يعلن ذلك صراحة. وكان يوسف الصائغ شيوعياً، وإن لم يصرح بذلك، وكان غانم حمودات مسؤول الإخوان المسلمين في الموصل».
النشاط السياسي
التحق كاتب المذكرات بالإخوان المسلمين عام 1951 عبر ناد صيفي ثم عبر جمعية الإخوة الإسلامية «كانت الجمعية تتوجه بدعوة الناس عامة لحضور بعض الخطب في الجامع النوري «الكبير»، خاصة حين يزور المراقب العام للإخوان الأستاذ محمد محمود الصواف الموصل، وفي صحبته بعض الشخصيات المهمة من أمثال الشيخ أمجد الزهاوي «رئيس جمعية الأخوة الإسلامية» والشيخ البشير الإبراهيمي «من الجزائر» والأستاذ علي الطنطاوي من سوريا «
بعد ذلك يستعرض الكاتب ثورة 1958 وموقف الإخوان المؤيد لها، وهو موقف جمعها مع القوميين والشيوعيين فشاركت معهم الجماعة بالتظاهرات المؤيدة للثورة، لكن كل فريق كان يردد شعاراته الخاصة. ويشير الكاتب إلى التناقض بين مشاعر الابتهاج بما حدث بين جيل الشباب، مقابل حزن والدته ووالده على مقتل الملك فيصل الثاني، لأنه لم يكن الحاكم الفعلي، فالأمر كله كان بيد نوري السعيد والوصي على العرش عبد الإله. كما يشير الكاتب إلى أن نجاح الانقلابات العسكرية في كل من سوريا والعراق ومصر، أثار نقاشاً حاداً داخل الإخوان حول مدى سلامة النهج الذي يسيرون عليه، والذي يرى أن الوصول إلى إقامة الحكم الإسلامي يمر عبر إصلاح الفرد والأسرة والمجتمع. يستعرض الكاتب مهازل محاكمة المهداوي، وما حدث في الموصل من مجازر بعد حركة العقيد الشواف وكان يومها يعمل ويدرس في بغداد.
الدراسة في القاهرة
سافر الكاتب إلى القاهرة عام 1962 لنيل شهادة الماجستير في الحقوق، ويشير الكاتب إلى التقدم الحضاري للقاهرة على بقية العالم العربي «لقد مثلت الحياة والدراسة في مصر، طفرة حضارية وثقافية بالنسبة للحياة التي عشتها في الموصل وبغداد، فقد كانت مصر في تلك الأيام تتفوق على جميع البلاد العربية في هذه النواحي الثقافية والحضارية». كما يقارن بين حال القصور الملكية الباذخة في مصر، التي بقيت سليمة فتحولت إلى متاحف، وحال القصور الملكية العراقية الفقيرة ومع ذلك تمت استباحتها نهباً وحرقاً.
الشيخ حسن الترابي الحالم
ما يستحق التوقف عنده قليلاً هو ما كتبه المؤلف عن الشيخ حسن الترابي، وملخص الأمر أنه بعد الإطاحة بالجنرال عبود شهدت السودان مرحلة ديمقراطية، في دورة من دورات تناوب الحكم العسكري والحكم الديمقراطي، سيعرفها السودان لاحقاً بعد انتهاء حكم النميري، ومرة أخرى بعد انتهاء حكم البشير، التي انتهت إلى الكارثة الحالية. يقول الكاتب إن الإخوان قرروا خوض الانتخابات، لذلك استعانوا بعناصر إخوانية من البلاد العربية الأخرى ومنها العراق. كان المؤلف أحد اثنين ممن ذهبوا من العراق إلى السودان. في الطريق من المطار إلى بيت الترابي، لاحظ الكاتب غلبة الشعارات الإخوانية والشيوعية. ما يوحي بأنهما أقوى حزبين. لكن سائق التاكسي ضحك «أوضح أن الحزبين المذكورين من أحزاب الأقلية، أما الأحزاب الفائزة فستكون حزبي الأمة والاتحادي». ويفسر السائق هذه الشعارات بأنها مجرد ضجيج إعلامي يُحسنه الطلاب والمثقفون الذين ما زالوا أقلية في المجتمع السوداني». توقع الترابي الحصول على خمسين مقعداً في البرلمان. ويذكر الكاتب أنه حضر نقاشاً بين الترابي وصاحب وكالة سيارات حول هذا الأمر، فتوقع صاحب معرض السيارات حصول الترابي على خمسة مقاعد، لكن الترابي أصر على خمسين مقعداً فوعده مالك المعرض أن يقدم له سيارة هدية إن حصل ذلك. وفسر الترابي موقف سائق التاكسي وصاحب معرض السيارات بأنهما مسيسين ولتثبيط الإخوان. وفي النهاية حصل الحزب على ثلاثة مقاعد فقط.
يسجل الكاتب أن الترابي خريج كل من أكسفورد والسوربون، رجل فكر وثقافة وكان الأولى به أن يركز معظم جهده وطاقته في هذا المجال وأن لا يتورط في دخول عالم السياسة، الذي يقوم على أسس من الواقعية والنفعية وتبادل المصالح. كما يرصد الكاتب مفارقة أخرى عن الترابي وهي مشاركته بانقلاب 1989 مع البشير وهذا يناقض كل ما آمن به ودعا اليه طيلة حياته من إيمان بالديمقراطية بنسختها الغربية.
الدراسة في بريطانيا والعودة للعراق
بعد الحصول على شهادة الماجستير في القاهرة يذهب الكاتب إلى بريطانيا ليحصل على الدكتوراه من جامعة سانت أندروز، ثم يعود إلى العراق ليبدأ رحلته الأكاديمية في جامعة الموصل. رصد الكاتب تفاصيل الحياة الأكاديمية العراقية فقدم صورة عن جانب مهم من دراسة تاريخ العراق الحديث، وكذلك بقية البلدان العربية، حيث نلاحظ تطبيق معايير أكاديمية غربية صارمة بحد أدنى من التدخلات السياسية. ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى مشروع النهوض الذي حمله حكام العراق في ذلك الوقت، والذي كان يُعول على بناء جامعات تضاهي أرقى الجامعات العالمية، لتأهيل خبرات وكوادر علمية تستطيع النهوض بالعراق. يتولى الكاتب عمادة كلية التاريخ في جامعة الموصل لمدة طويلة وكذلك رئاسة جامعة الموصل بالوكالة عدة مرات. رغم انتمائه الحزبي السابق. ولتكتمل المفارقة يخبرنا الكاتب أنه كان مدعواً لمؤتمر علمي في القاهرة في بداية الألفية الجديدة فيجد نفسه على قوائم الممنوعين من الدخول، لأنه كان قبل أربعين عاماً حين درس الماجستير في القاهرة منتم لجماعة الإخوان المسلمين!
في المذكرات نسق فريد من مزج الخاص بالعام فيتم الحديث عن الحياة الخاصة دون الإغراق في التفاصيل، التي لا تهم القارئ، وكذلك يتحدث عن الحياة الأكاديمية داخل جامعة الموصل وفي وزارة التعليم العالي في بغداد، دون أن يتسلل الملل للقارئ. نحن أمام مذكرات تؤرخ لثلاثة أجيال من الطبقة الوسطى التقليدية وتحولاتها في مدينة الموصل. كما أنها تؤرخ للحياة الأكاديمية في العراق وفي جامعة الموصل تحديداً، وأيضاً توثق لقطات من تاريخ العراق السياسي والحزبي خلال عقود. يؤدي الكاتب ذلك بطريقة أكاديمية منهجية محسوبة بدقة علماء الرياضيات، دون أي زيادة في جانب أو نقصان في جانب آخر.
كاتب سوري