مازن معروف الماهر بملاعبة شخصياته وقرّائه

2024-05-23

حسن داوود

الجدّ إيلاي، الذي تمكن من أن ينتزع المسدّس الـ»لوغر» من يد معذّبه الكولونيل الألماني في أحد مراكز تجميع اليهود، تحوّل إلى بطل ورمز. المسدّس أيضا، اللوغر، الذي آل إلى الحفيد زئيف، أعيد إلى واجهة الأحداث مرات عدة، مع انقضاء الزمن. فها هو، برصاصة واحدة أفلتت منه أثناء ما كان هذا الحفيد يقذف سائله في نجمة البورنوغرافيا صوفيا بورنو، أصاب ثديها وحافة الصندوق الزجاجي الذي يقيم فيه الراوي محجورا على الدوام، كي لا تنتقل البكتيريا المصاب بها إلى سواه. شظّية صغيرة من زجاج الصندوق أصابت وجه الراوي، الذي هو بلا اسم. ثم، مع تقدّم السرد في الرواية الصغيرة (النوفيلا، كما هو مثبت على غلافها) يظل ذاك المسدّس حاضرا، وفاعلا إيضا، حيث إن زئيف صار يطلق منه رصاصة كل فترة من أجل أن ينزف وجه الراوي الحبيس الطين مفتّتا، مخفّفا بذلك من تجمّع طاقة البكتيريا في الجسم ويحدث من ذلك انفجار كوني.

المسدّس أثبت أنه أبقى حضورا من التنازع حول شجرة الغوافة بين جدة الراوي والشخص الذي اسمه عمر. هذه الشجرة كانت تقع في محيط منزل الجدة، لكن الجدار الذي قسم الأرض بين هنا وهناك جعلها في أرض عمر. كان هذا الأخير ينتظر تساقط ثمرات الغوافة حتى يروح يرميها من فوق الجدار لتصل إلى بيت الجدة غير صالحة للأكل، في سابق أيامهما كانت بين هاتين الشخصيتين علاقة حب قطعها الجدار أيضا. لم نعد نقرأ، إلا للتذكير ربما، عن تلك الحكاية التي بُدئت بها النوفيلا. مع توالي صفحاتها راحت تنقلنا إلى أجواء أكثر تعقيدا وتداخلا. ذاك أنها حكاية ذات طابع بوليسي حينا، وهي رواية ذات قاع تاريخي حينا آخر، أو سياسي، كما أنها لا تخلو من خيال علمي، لتسخر من الخيال العلمي تاليا، فيما هي تبني أحداثها حوله. وهي تُدخل، إلى ذلك كلّه، مشاهد مضاجعة في حضور مراقبين بينهم، على الأقل، ذاك الراوي الذي من محبسه الزجاجيّ الضيّق، يستطيع أن يشاهد كل ما يجري مع حارسه أو مالكه زئيف.

هي رواية صغيرة جمعت أكثر ما يمكن عدّه من عوالم ترغب الروايات عادة بالبقاء في المجال المحدود لأحدها. ويخيّل إلى قارئها أنها كتبت من مخيّلة الإدمان على قراءة مجلات الأطفال والأولاد، هؤلاء الذين يُضمرون الشكّ في تصديق ما يقرأون لكنهم، في الوقت ذاته، يستغرقون في التماهي به. وهذا ما يذكّر برواية شهيرة، بل فائقة الشهرة، لسلمان رشدي حيث يجد كل من بطلي الرواية نفسه، بعد تعطّل الطائرة التي كانا على متنها، قادرا على الطيران، كما الطيور. أحد النقاد كتب أن ذلك أٌقرب إلى أن يكون وولت ديزني للكبار، مذكّرا قارئيه بألف ليلة وليلة.. أي أن القارئ يجد نفسه راضيا بإرجاعه إلى مخيّلته الطفلية، وإن سيكون عليه أن تُحال خيالاته السارحة إلى وقائع عليه أن يستخلصها من الرمزية التي تكتنفها، بل إن ذلك قد يذهب به إلى الظنّ أن كل ما يقرأه لا بدّ يختزن رمزا، على غرار الجدار الصغير الذي تبدأ به النوفيلا، الذي، كما في النوفيلا أيضا، سيحلّ محلّه جدار أكبر منه بكثير. على القارئ إذن أن يبحث عن الحقيقي الكامن، لا بد، تحت سقف الخيالي، ذلك من أجل أن يعرف لماذا تتحرك الحكاية في هذه الوجهة وليس في وجهة أخرى.

في ما بين السطور، أو تحتها، يُتابَع الصراع على فلسطين، بادئا من تاريخ الجدار الأول الفاصل بين البيوت، وليس بين المناطق. وفي كل وصف لحادثة تُروى في النوفيلا هناك رمز ينبغي التساؤل، إن كان موجودا أو مفترضا وجوده. في الفصلين الأخيرين من الكتاب يصير ظهور الرموز أكثر صراحة إذ نجد أنفسنا أمام سطور يمكن إرجاعها إلى حدث واقعي.

أن يُكتب عن قضية هي الأكثر حضورا في حياتنا، عبر عالم كارتوني مازج بين الغرابة والخفة لم يسبق له أن حصل في كل ما قرأنا، هكذا هو مازن معروف، يُدخل الصغار في عالم الكبار، ويلقّح الوقائع، كبيرة أو صغيرة، بأصناف لقاحات لم تعرفها من قبل.

عن نوفيلا لمازن معروف عنوانها « لعنة صبي كرات الطين» صدرت عن دار نوفل بسنة 2024.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي