محمد خضير سلطان
إذا كانت الرواية السيرية «غيرية» Biographie إذ تكتب عن شخصية من قبل شخص آخر، أو إذا كانت الرواية السيرية «ذاتية» Autobiographie، أي مكتوبة بواسطة الشخص المعني نفسه، فإن كتاب «القول والقائل» كونه سيرةً للناقد فاضل ثامر، قد جمع على نحو ما بين الروايتين، رواية الغير التي تبدو مثل مصباح صغير مشع، يستدعي أدق خلايا ذاكرة صاحب السيرة، فيما يفرض الأخير في روايته على نفسه « قراءة الممحو والمتناهي واللامرئي في لوحات ذاكرته» وتلتقي أوتتناظر الروايتان في هذا السياق، على درجة ما من التماسك والنمو، فيما تفترقان بعض الشيء أيضاً على درجة ما من التفاوت والتباين.
يضع النص «البيوغرافي» لدى الروائي والقاص خضير الزيدي عدداً من الأسئلة والمضامير التي ينطلق منها لتقفي شخصية السيرة (الناقد ثامر) وتمثلت في مصفوفات الأمالي ورسائل الواتساب والملاحق والاقتباسات والمختارات، لتشكل في الأخير نصاً موازياً، يرتب وقائع السيرة الغيرية والعامة، تبعاً لما تمكّنه المادة المجهزّة وتستدعيه الأفكار المسبّقة لإخراج الكتاب، إذ جاءت على النحو الذي يوضح مخطط السيرة، كونه إحياءً لذاكرة مستدعاة منذ الولادة والطفولة والنشأة وتشكل الوعي، تصاحبها إحاطة بالفضاء المكاني والزمني، وصعوداً متسلسلاً في الغالب إلى ما يعبر عن السيرة في مواقع نموها المنفتح على العقود المقبلة، في ظل وقائع متراكمة ودامية شهدتها البلاد، تختلط معها أبعاد الفضاء الاجتماعي، ويسعى فيها كاتب السيرة الغيري، إلى تأطير وعنونة الأحداث المتصاعدة في شكل أبواب وعناوين فرعية أكثر انفعالاً سماها «جمرات» اشتملت على جمرات الطفولة والسجون والديكتاتورية والنقد.
ولعل الإطار السردي لنص كاتب السيرة، اشتمل على خطين مركزيين، الأول احتفائي، سيتضح ضمناً في مقدمته التي يعد فيها هذه «المدونة السيرية» مخططاً أولياً مقترحاً لتمثال في ساحة عامة أو أكاديمية للناقد فاضل ثامر، كما يعّد هذه المدونة أيضاً، «إعلاناً صريحاً لتكذيب المقولة التاريخية والعالمية التي «تنفي إقامة أي تمثال لناقد» في العالم ويعدّها بالية وباطلة. والخط الثاني، الاعتراف وهتك أسرار معارك الثقافة وذلك («الضجيج الصاخب» الذي جُبلت عليه الأجيال الأدبية السابقة واشكاليات الصخب المصاحب للوجود والعدم وأدب النكسة). وإذا كانت مقدمة النص البيوغرافي التي كتبها الزيدي، قد انتهت بتساؤل من أن المعلم فاضل ثامر، وعد خيراً بكشف الدامي من المعارك والأسرار، إلا إن النص الأوتوبيوغرافي لدى ثامر، وعلى الرغم من ذكره عدداً من الوقائع في هذا الاتجاه، تلبية لدعوة كاتب السيرة، لكنه أقام الى جوار ذلك محوره الأساسي الجديد، الذي ينشد الاستقلال المعرفي والنقدي في مخاضات التجربة كلها، حتى غدت سيرته تساؤلاً باحثاً عن المفقود من حياتنا المعرفية، ومحاولة لقراءة ملامح الطبقة الثقافية المحلية الضائعة والمضيعة بين الأيديولوجيا والأدب، وبين المجتمع والسلطة.
هكذا، حافظ النص الأوتوبيوغرافي، ما يمليه عليه الإطار السردي الذي وضعه كاتب ومحرر السيرة، فيما استخدم ثامر ببراعة زمن الكتابة – الآن- حاضراً ومتضمناً، فهو يكتب بجمرة الحاضر لاستدعاء الماضي ويجري مقارنة دامية بين الاثنين، وأتاح استخدام الزمن بهذه الطريقة، أن يضفي بلاغة وتصوراً سردياً مضافاً عبر نقل صورتين للأمكنة الأولى، مرة في استدعائها وأخرى في صورتها الآن، ومن خلال مزج هاتين الصورتين، يُنشئ شكلاً إسلوبياً، يجمع بين الحنين والألم، كأن فواجع الماضي لما تزّل جارية متدافعة ودوّارة في ذات عراقية مرتكسة ومشروخة على الدوام، ولم تقف لحظة أو تتجدد على نحو متقدم وملموس، وعلى الرغم من اليأس والتشاؤم اللذين يكسيان أفكار الكاتب، إلا ان لغته تشيع مناخاً من تفاؤل الإرادة وقوة أمل حقيقية في تخطي ومقاومة الحياة العراقية «الخطرة» كما سماها.
أبقى النص الأوتوبيوغرافي مشهد الأمكنة الأولى شاخصاً في لحظته الراهنة والهرمة، ليتم استدعاؤه يوم كان مبكراً، ويوم كان كاتب السيرة طفلاً، فشاباً وصولاً إلى لحظة الكتابة، وبذلك تنطلق السيرة من المكان نفسه العائدة إليه، وتستجلب أنحاءه العامة دون أن تغادره، «لكم كان طريق الأمكنة طويلاً، ونمضي به على إيقاع سيارة حمل متداعية» ولعل طريق الحياة العراقية، كما يرى ثامر لما يزّل صعباً ولما نزّل نمضيه في عربات مثقلة ومتداعية.
اشتمل نص الناقد فاضل ثامر على خطين مركزيين، الأول في نافذة وقائع الحياة السياسية العامة، والثاني، أثر الأخيرة في تشكيل رؤيته المعرفية والجمالية التي يعدها مركز اهتماماته ووجوده، ومن ثم بحثه وتواصله لكي يتخذ مساره المعرفي والجمالي المستقل. إن محور نص سيرة الناقد ثامر الأساس، يقوم على بناء تجربته النقدية، منطلقاً من خلفيات بنائه الفكري، سواء في بعده النظري من خلال قراءاته العديدة منذ لوكاتش وحتى بورديار، أو في بعده التطبيقي من خلال جمرات التنظيم السياسي والاستقالة عنه، ومن ثم الانقطاع تماماً للعمل النقدي، ومع ذلك ومن خلال تقفي النص لسيرته، نجد ان أكثر النقاط الشاقولية منذ عقود سابقة ولاحقة في التجربة السياسية لم تنبئ عن فك ارتباط جلياً من الجانب المعرفي وبالعكس، بل ظلت التوجهات والمساءلة الذاتية قائمة لتصل حد اللحظة الراهنة، ولعل الكاتب في هذا المضمار لا يريد أن يقفز على الواقع مثلما «قفز من المكان الأول إلى الوسط الأدبي خارج البتاوين» مهاد طفولته، فالقضية أكبر من وقائع ذاتية يحياها الفرد العراقي، خاصة إن التفكير الأدبي والمعرفي والاجتماعي في مواجهة الاحتكار والخطف السياسي والأيديولوجي له في بلادنا، لم يكن سهلاً أو ممكناً طيلة العقود السابقة، ومن مزية سيرة الناقد ثامر، أنه أبقى مشروعه في اجتماعية الأدب والثقافة في العراق قائماً في اتجاه تغييرات موضوعية، يقتضى حدوثها في المجتمع والدولة، ومفتوحاً على المزيد من الاستقصاء والبحث والاستعادة، ويعّد مع عدد من الأسماء الأدبية والنقدية رائداً في الكسر التدريجي لإدماج السياسة بالأدب التي رزحت تحت نيره الأجيال الأدبية السابقة، وتشكيل الملامح الأولى للأنتلجنسيا العراقية.
كاتب عراقي