الفيلسوفة الجميلة

2022-01-06

مصطفى لغتيري

حين يغمرها العالم من حولها بالصور الخيالية، تحاول جاهدة أن ترتبها، حسب منطقها الخاص.. دوما تميز ذهنها بتلك الانتقائية التي تجعلها تحتفظ بما يناسب تفكيرها فقط، وترمي ما سواه إلى هناك، حيث لا يمكن إلا أن تختلس لها النظر بكثير من الحذر في اللحظات الحرجة.

في كثير من الأناقة ارتدت الفيلسوفة ملابسها هذا الصباح، حرصت على أن تكون بسيطة وجميلة في الآن نفسه.. نوع من العفوية بدت في اختياراتها، حتى لا تبدو متصنعة.

الماضي هكذا ينبعث من جديد، مقبلا يأتي من بعيد، حثيثا يفرض نفسه على تفكيرها.. هكذا تجد نفسها تفكر كعادتها في الزمن.. ما معنى الماضي؟ ما معنى الحاضر؟ ما معنى المستقبل؟ كلها مفاهيم زئبقية، لا يكاد المرء يمسك بها حتى تنفلت من تلابيب ذهنه.. طردت كل ذلك بعيدا، وحاولت التفكير في لحظتها الآنية.. ما يهم هو الحاضر، إنه بحق يختزل كل الأزمنة، سواء الحقيقية منها أو المتخيلة. في نفسها قالت» لحظتي هي الأهم، وما أعيشه الآن وهنا هو ما يجب أن يشغلني أكثر. وما سوى ذلك مجرد وهم». مررت يدها على شعرها الطويل، المسهب في عفويته، وكأنه معادل موضوعي لما يمور داخلها. «القطار قد يتأخر لكن لا بأس في ذلك.. هي فرصة لألملم أفكاري وأرتبها، وأصبح ما أريد أن أكون عليه، لا ما يراد لي أن أكون».

حين رتبت دواخلها بشكل نسبي بعد أن احتوتها القاطرة، التي تكاد تشعرها بأنها في عزلة تامة، عزلة تجعل كل فكرة تلاحقها تصطدم بأركان القاطرة، ككرة تتقاذفها الأرجل، قبل أن تستقر في ذهنها.. كل فكرة هنا تتجلى كخيالات لا يمكن التحقق منها.. وحين ترمي بصرها خارج القاطرة عبر النافذة الزجاجية العريضة، تنتابها مشاعر تكاد تكون متناقضة. كل شيء هناك يلوح كأشباح تتراقص أمام العين للحظات ثم تختفي.. الواقع من مكانها يبدو أقرب إلى الحلم.. كادت تقول أقرب إلى الوهم، لكنها تجاهلت الكلمة، التي اخذت تذوب تدريجيا حتى اضمحلت أو كادت تضمحل.. الأشجار تتراكض ككائنات قادمة من المستقبل لترتمي في لحظة متناهية القصر في أحضان الماضي السحيق. أغلبها يظهر شائها وليس على حقيقته.. الخضرة التي نمت في الحقول، نتيجة للأمطار الأخيرة، بساط أخضر متمدد إلى ما لا نهاية.. في دواخلها تتبرعم ابتسامة رائقة.. على حين غرة تسأل نفسها» هل حقا أنا سعيدة؟» ثم تغوص في دواخلها متخلصة من كل ما يحفز حواسها نحو المظاهر الخارجية، التي تغزوها عبر البصر.. السمع فقط كانت مسيطرة عليه.. كانت قد وضعت سماعتين، تسكب في مسمعها سيلا من الإيقاعات المختارة.. «ما السعادة في نهاية المطاف؟». هكذا تساءلت بحذر.. لحظتها مرت في ذهنها تباعا صور لكثير من الفلاسفة.. سقراط أفلاطون.. ديكارت.. كانط.. هيكل.. سبينوزا.. كانت صورهم تظهر للحظات وشفاههم تتحرك بشكل كاريكاتيري، وهم يستظهرون عن ظهر قلب مفاهيمهم الخاصة عن السعادة. ابتسمت من جديد وهي ترى هذا الطابور الفلسفي الذي طاوعها في تفكيرها، وطفق يستجيب لرغبتها بأريحية حسدت نفسها عليها.. لكن في أعماق ذاتها كانت تبحث عن فيلسوفة من جنسها تطرح لها رأيها.. في ذهنها يتجلى مشهد واضح.. لفيف من الفلاسفة، كانوا قد اجتمعوا وكأنهم في مظاهرة، كل منهم يحمل لافتة تحدد مفهومه للسعادة.. لكنها ما تزال تبحث عن امرأة.. لها ثقة كبيرة في أن المرأة ستفيدها أكثر في هذا الموقف العصي، ربما لأنها من جنسها، أو هو نوع من «النسوية» التي كانت تؤطر تفكيرها في كثير من الأحيان، في مقاربة مواقف وجودية، تجد نفسها محاصرة بها فجأة ودون سابق إنذار.. لاحظت وسط الجمع جان بول سارتر يحمل لافتته.. كانت هيئته مأساوية بشكل أضحكها، بيد أنها كانت على يقين أن هناك امرأة خلفه، تحاول جاهدة أن تطل من بين الفرج، التي يسمح بها تجمهر هؤلاء الحكماء.. بذلت مجهودا أكبر.. فإذا بها تظهر بشكل محتشم، كانت سيمون دي بوفوار تطل بجانب من وجهها، تناضل من أجل أن تبرز لافتتها أكثر فأكثر.. قرأت ما أسعدها، فكرت في الذات في الوجود في الاستقلالية في الحرية.. في مركزية المرأة باعتبارها أصلا، وما سواها مجرد فرع طارئ يكاد يكون بلا أهمية تقريبا.. تثاءبت.. غزاها بعض الخدر، لكنها قاومت كل ذلك، واستمرت في يقظتها الذهنية..

بعد حين وصلت وجهتها المقصودة.. رمت كل هواجسها في أول حاوية صادفتها في طريقها.. هكذا فكرت أن تهتم بلحظتها الآنية من جديد، لا قيمة لشيء خارج الحاضر.. بخطوات واثقة مضت في طريقها، وحين غادرت المحطة داعبت وجهها نسائم البحر القريبة، تلاعبت بخصلات شعرها. امتدت يدها لترتبها، أرسلت ببصرها، حيث رأته واقفا ينتظرها بحماس.. حينها فقط أحست بأنها ترتمي في حضن الماضي، الذي انبعث لها من جديد. ثم قالت في نفسها» قد يكون الماضي حقيقة ملموسة كذلك، من يدري؟».

وقبل أن تجد جوابا لسؤالها، كان سيل الزمن الجارف قد أخذها إلى حيث لا تدري أو ربما تدري ولا تريد مصارحة نفسها بحقيقته..

قاص مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي