
ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن كلمة “السلام” عادت لتُسمع مجددًا في إسرائيل بعد غيابٍ طويل، مع تزايد الجهود التي تقودها إدارة ترامب لتوسيع وقف إطلاق النار مع حماس إلى عملية سلام أوسع.
وأشارت الصحيفة إلى أن إسرائيل تقف عند مفترق طرق سياسي وأخلاقي بين استمرار الحرب وبين إحياء أملٍ هشّ بالسلام وسط انقسام داخلي عميق وإرهاق شعبي من القتال المستمر.
وتقول: “لم يكن الحشد الذي ملأ ميدان رابين في تل أبيب مساء السبت الماضي -في الذكرى الثلاثين لاغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين- لافتًا بعدده؛ إذ لم يتجاوز خمسين ألف شخص، معظمهم من متوسطي وكبار السن. لكن ما ميّز المناسبة لم يكن حجم الحضور، بل تكرار كلمة “السلام”.. كلمة نادرة في التجمعات السياسية الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة”.
“نعم للسلام، لا للعنف!” هتف الحضور.
وقال يائير لبيد، زعيم المعارضة ورئيس حزب “يش عتيد” الوسطي: “السعي إلى السلام عمل يهودي أصيل”.
وأضاف يائير غولان، الجنرال السابق ورئيس حزب “الديمقراطيين اليساريين”: “رابين كان يعلم أن السلام ليس ضعفًا، بل قوة وقدرة”.
من أوسلو إلى ترامب
أوقف اغتيال رابين في 4 نوفمبر 1995 مسار “أوسلو” للسلام بعنف، وحوّل كلمة “السلام” إلى رمزٍ للسذاجة أو للانتماء اليساري في مشهدٍ سياسي اتجه تدريجيًا نحو اليمين.
أما اليوم، فثمّة نوع جديد من “عملية السلام” تتبلور بقيادة إدارة ترامب وحلفائها في العالم الإسلامي، بهدف توسيع وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس وتحويله إلى مسارٍ سياسي أوسع.
تهدف هذه الجهود إلى نزع سلاح قطاع غزة وإعادة إعماره، بدءًا من نصفه الشرقي الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، مع السعي لتوسيع “اتفاقات أبراهام” لتشمل دولًا جديدة -مثل السعودية وسوريا ولبنان- بل وربما، كما يأمل البعض، فتح نافذة أمل لقيام دولةٍ فلسطينية مستقبلًا.
لكن قبل تحقيق أي من هذه الطموحات، يتعيّن على حماس تسليم جميع جثث الأسرى الإسرائيليين.
وأعلنت إسرائيل صباح الاثنين أنها تسلّمت خلال الليل رفات ثلاثة منهم: العقيد أساف حمامي، والرقيب أوز دانييل، والنقيب عُمر نيوترا (يحمل الجنسية الأمريكية والإسرائيلية المزدوجة) فيما لا تزال جثامين ثمانية آخرين في غزة”.
بين الأمل والخطر
رغم أن اللحظة الحالية تحمل فرصًا كبيرة، فإنها أيضًا محفوفة بالمخاطر.
فقد اضطر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى الموافقة على وقف إطلاق النار تحت ضغطٍ أمريكي، في حين يفضّل العديد من شركائه في الائتلاف الحاكم العودة إلى الحرب الكاملة سعيًا إلى “نصرٍ تام” يمنع بقاء حماس أو إعادة تنظيم صفوفها.
وفي الشارع الإسرائيلي، يسود شعورٌ بأن البلاد تقف عند مفترق طرق، ليس فقط بشأن غزة، بل حول مستقبل الدولة نفسها. فقد غادر إسرائيل خلال العام الماضي عددٌ من المواطنين يفوق من هاجروا إليها، ويعتقد كثيرون عبر الطيف السياسي أن الانتخابات المقبلة، المقرّرة العام القادم، ستكون حاسمة في تحديد ملامح الدولة وما إذا كان المزيد من الإسرائيليين سيختارون البقاء أو الرحيل.
ويتعلق أحد الملفات الأكثر حساسية بالعقد الاجتماعي بين المتدينين المتشددين والعلمانيين. ففي الأسبوع الماضي، خرج مئات الآلاف من اليهود الحريديم في القدس للمطالبة بتمديد إعفائهم من الخدمة العسكرية، في حين يشعر عشرات الآلاف من جنود الاحتياط -الذين أنهكتهم جولات القتال المتكررة في غزة- بالاستياء من هذه المعادلة غير المتكافئة.
رهان نتنياهو وميراث رابين
يتوقف الكثير على ما سيقرّره نتنياهو في الأشهر المقبلة: ما الذي سيُجبر عليه، وما الذي سيختاره بإرادته، وما الذي يريد أن يخلده التاريخ له وهو في السادسة والسبعين من عمره؟
كما سيعتمد الكثير على الكيفية التي سيطرح بها خصومه أنفسهم أمام ناخبين منهكين من الحرب، لكنهم لا يزالون متشككين في فرص السلام.
ركزت خطب السبت على أن رابين كان محاربًا قبل أن يصبح رجل سلام، وعلى التشابه المقلق بين المناخ السياسي الحالي والمشهد المتوتر الذي سبق اغتياله.
قال غولان إن الطلقات الثلاث التي أنهت حياة رابين “لا تزال تدوي في كل مرة تُحرّض فيها الحكومة ضد مواطنيها، أو يُوصم فيها الوطنيون بالخيانة، أو يُعتدى فيها على المتظاهرين الذين يمارسون حقهم المدني”.
أما لبيد، فاتهم أحزاب اليمين الديني في الائتلاف الحاكم بأنها “تشوّه جوهر اليهودية وتحوّلها إلى شيء عنيف”: “العنصرية العنيفة لإيتمار بن غفير ليست يهودية، ومن يدعو إلى إلقاء قنبلة ذرية على غزة لا يمثل اليهودية”.
وختم بالقول: “عنف المستوطنين ليس من اليهودية. اليهودية لا تخص المتطرفين، ولا الفاسدين، ولا متهرّبي التجنيد”.
في إسرائيل اليوم، تبدو كلمة “السلام” وكأنها عادت إلى الساحة العامة بعد غيابٍ طويل، لا كأوهام “أوسلو”، بل كأملٍ هشّ وسط تعبٍ ومرارةٍ وشعورٍ جماعي بأن شيئًا عميقًا في هوية البلاد على المحك.