
حسام أبو حامد
لم يكن في حيّ الزهور ما يثير الدهشةَ قبل صباح ذلك اليوم من كانون الأوّل/ ديسمبر. حيٌّ صغير في طرف العاصمة، تشابكت فيه أسلاك الكهرباء والهاتف فوق الرؤوس كشِباكٍ صدئةٍ تصطاد الهواء، واتكأت بيوتُه على جدرانٍ متعبةٍ من الانتظار.
رائحة المازوت تتسلل من المولّدات عطرًا مميزًا، ويصل الماءُ إلى الصنابير متقطّعًا، يتذكّر واجبه في اللحظات الأخيرة. كل شيء في الحي يسير بإيقاعٍ ثابتٍ، كأنّ لا حياة فيه ولا موت.
قبل غروب شمس اليوم السابق، أنهى الأهالي كعادتهم في كل عام تعليق حبال الزينة احتفالًا بذكرى التحرير. وفي زقاق المَهبّ، امتدّ حبل الزينة بين شرفتَين متقابلتَين، تتدلّى منهما صور القائد المنتقاة بعناية. عيناه لا تريان أحدًا، وفمٌ يبتسم كما لو أنّه يعرف السرّ الذي يجهله الجميع.
قال أحد الصبية:
- ابتسامته تشبه ابتسامة القمر المعلّق في سماء الحي.
قال آخر:
- إنه يبتسم حتى حين تكون الكهرباء مقطوعة.
في الليل، كانت الأضواء باهتةً، والابتسامات مطبوعةً في وجوه الناس مثل أقنعةٍ من تعبٍ قديم، كل شيء في الحيّ مؤجّل حتى إشعارٍ آخر. وحين هبّت الرياح فجرًا، لم تستأذن أحدًا لتختبر صبر الصور ومتانة الحبال.
في الزقاق، كانت البداية... قطعت الرياحُ حبلَ الزينة، فسقطت صورةٌ القائد في بركة ماءٍ خلّفها مطر الأيام السابقة. غاص نصف وجه القائد في الوحل، وبقي نصفه الآخر مبتسمًا كأنّه لا يصدّق ما حدث.
كان الطريق إلى المدرسة يمرّ بالزقاق، حيث يُضيّع سامي وعدنان ما يكفي من الوقت لتأجيل الجلوس في مقاعد الدراسة.
ما أن همّا بدخول الزقاق حتى تجمّدا واقفَين في مواجهة لحظةٍ تصادَم فيها المألوف والمستحيل:
- الحبل مقطوع!
- القائد!
- سقط القائد!
بدا أن العالم الرمزي الذي عاشا فيه قد انكسر، وصارا فجأةً شاهدَين على ما لا ينبغي أن يُرى. بحثا عن مخرج لا يُغضب الصورة ولا يُخيّب الحلم.
في النهاية، انطلقا يركضان مخترقَين جدار الصمت الصباحي الثقيل في الحيّ، يطرقان الأبواب. يصرخان بفرحٍ مباغتٍ لا يعرفان سببه:
- سقط القائد! سقط القائد!
في دقائق، خرج الناس من بيوتهم، وتجمّد في مكانه من بكّر في خروجه منها. فتحت صرخة الولدين نافذةَ نسماتٍ عليلةٍ في صدورهم بعد اختناقٍ، وكبّرت مئذنة الجامع الكبير في الحيّ وأعلنت:
"سقط الطاغية".
ترقّب بعضهم بقلق، وضحك آخرون، وصفّق أناس غير مصدّقين. كان فرح كثيرين غامضًا، لكنّه عميق، خجولًا كمن يستيقظ من حلمٍ طويل... لم يكن فرحًا خالصًا، بقدر ما كان رعشةً غامضةً بين الرجاء والوجل.
لكنّ النسمة ما لبثت أن تحوّلت رياحًا من خوف، حين تبيّن أن القائد لم يسقط، وإنما صورته فقط؛ نصف في الوحل والنصف الآخر يبتسم. وتحوّل الفرح همسًا مذعورًا في العيون.
ساد الحيّ صمتٌ ثقيل. ووقف الناس حائرين أمام صورة القائد، إن هربوا فهم مذنبون، وإن اقتربوا فهم متمرّدون. قال المختار أبو كريم بصوتٍ مُرتجف:
- من نشر هذه الإشاعة الخطيرة؟
- الولدان.
- ومن صدّقهما؟
سكت الجميع اعترافًا بتورّطهم في جريمة فرح أمنية.
قال البقّال أبو رشيد وهو يمسح العرق عن جبينه:
- لازم نلاقي تبرير، إذا ما كان واحدنا الفاعل فالشماتة تهمة بتكفّي.
ردّت أم خليل وهي تقف في شرفة منزلها في الطابق الأرضي عند زاوية الزقاق حيث تجمهر الناس:
- محسودين يا جماعة... من يوم ما بدّلونا المجاري بعد ما شبعنا روايح، والحيّ الفوقاني عم يحسدنا ع هالنعمة.
ردّ شاب متجهّم:
- الحسد ما بوقّع القائد.
- يمكن الريح مدفوعة من جهةٍ معادية!
- مؤامرة هوائية يعني؟
- لا تتمسخر، الرياح ما بتتحرّك إلا بأمر.
تدافع الكلام، مع حرص الناس على الاحتفاظ بمسافة تفصلهم عن بركة المياه التي استقرّت فيها صورة قائد أطاحته الرياح، وكأنها فخّ نصبه القدر لأهالي الحيّ، منتظرين أن تُعلَن براءتهم.
قبل أن تحلّ الظهيرة، انتشر عناصر الأمن في المكان يقودهم العميد أبو غازي، ضابط ينتمي إلى الحيّ الفوقاني، معروف بشراسته، و"ما في بقلبه رحمة".
صاح أبو غازي في مكبّر الصوت:
- المكان مغلق حتى إشعار آخر... ممنوع الدخول والخروج من الحي إلا بإذن من جهازي الأمني.
انتشرت الروايات في الحي عن غرف التحقيق وعذاباتها، وعن اعتقالات تعسّفية استمرّت أيامًا. كان أول المُعتقَلين سامي وعدنان بتهمتَي نشر أخبار كاذبة، وتهديد السلم الأهلي.
مسار الأمور أصاب الجميع بالذعر، وطلب المختار أبو كريم، وشيخ الجامع أبو صلاح، ووجهاء الحي، مقابلة أبو غازي.
أصبحت الاعتقالات وحشًا ليليًا، فسار الخوف بين البيوت مثل ظلٍّ ثقيل، وأطفأ الناس مصابيحهم باكرًا، ومشتْ أحلامُهم على أطراف أصابعها.
 لم تفلح المفاوضات التي قادها أبو كريم وأبو صلاح مع العميد أبو غازي، ولم يفرج حتى عن الطفلين سامي وعدنان، بل استُدعي إلى التحقيق بعض رفاقهما في المدرسة والحيّ... لذلك، قرّر ناشطو الحي التصرّف.
تخفّى بعضهم في غرف الدردشة ووسائل التواصل الاجتماعي. بدأت وسائل الإعلام العالمية تنقل أخبار الحيّ، وتحدّثت تقارير الصحف عن القمع المُمارَس على سكّانه.
كان القائد في جولة خارجية يقود مفاوضات مع جهات دولية لتلقّي دعم خارجي ينقذ البلاد من أزمتها الاقتصادية بعد سنوات من حرب أهلية. وبدأت تلك التقارير تُحرِج القائد.
مرّ أسبوع على الحي تحت حصار جهاز أبو غازي الأمني، وظلّ الفاعل مجهولًا. خلف الجدران، انصرف كثير من حديث الناس إلى أبو غازي:
- حقود، أساسًا هو ما صدّق ينتقم من الحيّ.
- لو هالشي صاير بالحي تبعه كان اتصرف هيك؟ أكيد كان قيّد القضية ضدّ مجهول.
- أساسًا، هو بيعرف الفاعل... ويمكن يكشف عنه بعد ما يربّينا.
- شو حقودين أهالي الحيّ الفوقاني، ما بكفّي بالعين البيضة والتقشيرة، كلّهن ولاد دولة.
غضبت القيادة العليا من امتداد الأزمة الأمنية زمانيًا وإعلاميًا، واضطر أبو غازي لأن يرفع تقريره النهائي:
"الرياح هي الفاعل، لكن لا يمكن معاقبة الطبيعة".
براءة البشر لم تعجب القيادة العليا، وأُعفي أبو غازي من مهامه.
في اليوم التالي، علم سكّان الحي بأن الأوامر أتت من "فوق" بعزل أبو غازي وتعيين العميد أبو طلال في مكانه.
تزوّج أبو طلال امرأةً من سكّان وسط العاصمة يقال إنها "مدعومة"، وكانت سببًا في ترقيته، حتى "صار وتصوّر" كما يقولون. غادر الحي مبكّرًا منذ التحاقه بكلية الشرطة، ورغم بقاء والديه وبعض إخوته في الحي، إلا أنه لم يزرهم، بل كان يرسل إليهما سيّارة أمنية تنقلهما إلى منزله في الحيّ الراقي.
تنفّس الأهالي الصعداء، وشعروا بأن الفرج قريب. وقال المختار مطَمئنًا:
- أخيرًا العدالة جايه ع الطريق.
خرج شبّان الحي في مظاهرات فرحًا بتعيين أبو طلال، ففي النهاية "الرجل منّا وفينا"، وهو الوحيد من سكّان هذا الحي يصل منصبًا رفيعًا كهذا.
بدا مع الرجل أن للحيّ مستقبلًا زاهرًا. لكن العدالة جاءت في هيئة حصارٍ جديد. أعلن أبو طلال بصوتٍ باردٍ في أول اجتماعٍ مع وجهاء الحيّ:
ـ أمامكم 72 ساعة لتسليم الفاعل... خونة الوطن ما لهم فيه حقوق.
أدرك أهالي الحي أن أبو طلال ملكي أكثر من الملك. اجتمع الرجال في دكّان أبي رشيد. تعالى صخب النقاش:
- العميد رح يهدّ البيوت فوق روسنا إذا ما لقينا الفاعل.
- لازم الي قطع حبال الزينة يسلّم حاله.
- مين هاد الي بيسترجي يسلّم حاله.
- ليش من قال إنه لازم يكون في فاعل... الهواء كان قوي ليلتها.
كانت نظرية المؤامرة حاضرةً في ذهن الشيخ أبي صلاح:
- يا عمّي ليش ما يكون الي عملها مندسّ. بلكي الحيّ الفوقاني بدّه يورّطنا؟
قال أبو رشيد:
- يا جماعة إذا طار أبو طلال بيرجعوا جماعة الحي الفوقاني يحكمونا.
من أمام الدكان مرّ أبو نبيل يحمل عصفوره الميّت يحثّه على الطيران، يرفعه إلى الأعلى ويصيح:
- ولك طير.
نفخ عليه، ثمّ قال:
- شو هالرياح هاي... بتخرّب بلاد وما بتحمل عصفور؟
توالت سخرية أهالي الحيّ:
- خود هالأجدب هاد، ولا كأنه في شي صاير.
- لهلأ ما كان يطير هالعصفور.
- حنطله ياه أستاذ العلوم بالمدرسة ليضل صارعنا فيه.
فجأة صار الصمت سيّدًا فوق رؤوس القوم. نظر المختارُ إلى كل من أبي رشيد وأبي صلاح. تلاقت نظراتهم لحظات، وهزّ كل منهما برأسه موافقًا.
قبل انقضاء المهلة التي منحها أبو طلال لحي الزهور بساعات، بدأت الكهرباء تعود إلى سابق عهدها مقنّنةً، وعادت المياه تتدفّق من صنابير المنازل كل صباح ومساء، ورُفع الحصار عن الحي، وأعلن التلفزيون الرسمي:
"بالتعاون مع الأهالي، تمكّنت الجهات المختصّة من إلقاء القبض على المخرّب الذي قطع حبال الزينة في حيّ الزهور".
صفّق الناس وهللوا. قالت أمّ خليل لأولادها وهي تبخّر البيت:
- قلتلكن... الحسد هو السبب.
قدم أبو نبيل من الحي الفوقاني، بعد أن تزوج فتاة من حيّ الزهور. كان لقاءً شبه مستحيل بحكم تاريخ من العداوة بين الحيَّين. تُوفّيتْ أم نبيل منذ سنوات بعد مرض اشتدّ بها، وتخلّى عنه أبناؤه الثلاثة، حتى قبل أن ينتقلوا للعيش في المُغترب. ورغم أنه لم يبلغ الستّين بعد، إلا أن الخرف داهمه باكرًا، واعتاش من إحسان بعض الجيران.
سقط عصفور دوْريٌّ في برميل على قارعة الطريق ملأته مياه الأمطار ذات شتاء، فمدّ أبو نبيل له يد المساعدة، إنعاشًا ودفئًا. من يومها أصبحا صديقَين، قبل أن يسبقه الدوري إلى الغياب، كما تفعل العصافير دائمًا.
سكن أبو نبيل مخزنًا مهجورًا منحه إياه تاجرٌ في الحيّ، رغم مطالبة الأهالي بأن يعود إلى حيّه بعد أن بطل مبرّر سُكناه في حيّهم.
حين جاؤوا إليه ليلًا لم يقاوم، كان يجلس أمام باب المخزن رغم برد كانون، يهمس لعصفوره بأسراره التي لا تنتهي. أمسك أحد عناصر الأمن بكتفه ورفعه واقفًا على قدميه، فانفلت العصفور من كفّه وسقط إلى الأرض. صرخ أبو نبيل:
- العصفور.. استنّو... العصفور!
جرّوه ككيسٍ فارغ، وظلّ أبو نبيل يتلفت إلى عصفوره طوال طريقه القصيرة إلى السيارة، كأنّه ينتظر أن تحمله الرياح فيطير إليه. وحدها رياح كانون مشت خلفه. 
قبع في الزاوية يمدّ كفّه إلى الهواء، ينتظر أن يحطّ عصفوره عليها. وحين يسأله السجّان عن اسمه يقول:
- أنا صاحب العصفور.
في الخارج، بقيت الرياح تمارس نشاطها المشبوه، تمرّ فوق الحيّ بخفّةٍ ساخرةٍ، تزيح ستارةً هنا، وتقطع حبل زينةٍ هناك، فتذكّرهم كمْ هي حرّة... وكمْ هم سجناء.
بينما كانت الشمس تخرج مترددّة من خلف الغيوم، مرّ سامي وعدنان بالمخزن المهجور. كان الباب نصف مفتوح، والعصفور الصغير واقفًا في زاوية سرير أبي نبيل يرفرف بجناحيه كمن يجرّب الطيران من جديد.
اقترب الولدان بخطواتٍ حذرة، لا يعرفان ما إذا كان ما يرَيانه حلمًا أم حياةً تعود.
ما إن بلغا عتبة الباب حتى رفرف العصفور بقوةٍ، وطار فوق الحيّ في دورة كاملة، قبل أن يختفي في السماء.
*قاص فلسطيني