نحو سياسة عربية مختلفة
2025-11-03 | منذ 7 ساعة
مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

يستبد بي شعور يعاودني من وقت إلى آخر خصوصاً في أوقات الأزمات الإقليمية وضغوط المشكلات الدولية على المنطقة العربية، فأتوهم دائماً - وأرجو أن يكون الأمر وهماً فقط - أن السياسات العربية على امتداد قرن كامل في الأقل قد خضعت لنوبات صعود وهبوط لا أحد يعرف متى تنتهي، ولا شك أن القضية الفلسطينية هي العامل المشترك في كل الفترات التي مضت من معاناة العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً.

دعنا نعترف أن المشكلات التي أحاطت بأطماع الحركة الصهيونية في الأراضي العربية قد تركت آثاراً غائرة على مستقبل المنطقة ومسيرة شعوبها، فلو أننا تخيلنا العالم العربي من دون إسرائيل فأظن أنه سيكون في وضع أفضل كثيراً، فلقد استهلكه هذا الصراع واستغرقته ملفات القضية الفلسطينية عبر العقود وكان ذلك على حساب مشروعات التنمية وبرامج الإصلاح في أرجاء الوطن العربي، مما أدى إلى توطين التخلف وتراجع البحث العلمي بل وانهيار كثير من النظم التعليمية العصرية، ووقع البلاد والعباد في قبضة اللامبالاة والشعور السائد بأن ما هو قائم هو أفضل ما يكون ولا بديل عن ذلك، في حال مستمرة من الاستسلام الطوعي وتكرار الأخطاء وإضاعة الفرص وتبديد الموارد.

ولا بد من أن نسجل هنا أن الظروف الدولية قد تحالفت هي الأخرى ضد العرب والعروبة والإسلام والمسلمين، فقد ابتلينا بأمراض التعصب والتطرف وترويع الآخرين وإرهاب بعض منا بعضاً تحت تسميات ظالمة فيها افتراء على الحق والحقيقة، حتى جرى وصم الإسلام الحنيف بأنه دين عنف وتطرف ورفض للآخر، في وقت شاعت فيه الكراهية فأصبحنا أمام أوضاع لم نكن نتوقعها من قبل، ويبدو أنه من حقنا الآن أن نرصد بعض العوامل التي أدت إلى ما نحن فيه، مدركين أن الأوان لم يفت بعد وأن وصولنا المتأخر نسبياً هو أفضل بالضرورة من عدم الوصول بالمرة، ونرصد ملاحظاتنا على هذا السياق من خلال النقاط الآتية:

أولاً، لقد كررت الأدبيات المتصلة بالتاريخ العربي عبارة شهيرة مؤداها أن العرب أمة ماضوية تتحدث عن الماضي كثيراً وترتبط به طوال الوقت وفي المقابل تهرب من المستقبل ولا تتحمس له، لذلك هجر العرب البحث العلمي والتكنولوجيا الحديثة، وانتظموا في المقابل في ترديد أساطير الماضي وخزعبلاته، مرددين الأشعار والأذكار وأبيات شعر الحماسة والتغني بالماضي الذي رحل من دون أن يكون هناك أي تصور لرؤى واضحة نحو المستقبل، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تحدث كثير من خصوم العرب أيضاً عن مقولتهم الشهيرة (العرب ظاهرة صوتية) وليس لديهم روح المبادرة أو الرغبة في التغيير إلى الأفضل، ولا شك أن مثل تلك الشعارات التي تدعو إلى اليأس وتلتصق بالتاريخ العربي القديم والمعاصر إنما هي نتاج طبيعي للرؤية الغائبة والفكر المضطرب على مر القرون.

ثانياً، يجب ألا ننسى -عرباً أو أجانب- الآثار التي تركها الاستعمار الغربي والبصمات الواضحة على رؤيته للاختراقات المطلوبة خروجاً من محنة الجمود وهذيان الأوهام، فالأمم القوية تصنعها إرادة واضحة لا تقف عند حدود ضيقة ولا أهداف قصيرة الأجل، ولهذا يجب أن نتذكر دوماً أن تراثنا العربي يدعو إلى الفخار، لكن ذلك لا يدعونا بالضرورة إلى الوقوف عنده نلوك الحديث عنه صباح مساء من دون أن نستغرق في عصر الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي المتطور والتفكير الرشيد.

نعم إننا الأمة التي ظهر فيها الفارابي وابن سينا وابن الهيثم وذلك القطار الطويل الذي ضم أعلاماً عربية وإسلامية تسعى نحو المستقبل وتضيء طريقه عبر ظلمات العصور الوسطى في الغرب الذي يناصبنا العداء أحياناً ويختلف معنا أحياناً أخرى، فالحضارة العربية الإسلامية لم تقف عند حد لكنها تجاوزت الجميع لكي تكون مكوناً أساساً في المجتمعات الصاعدة، لقد آن الأوان لكي نتصرف بروح التضامن وسلوك قومي راسخ حتى تصبح العواصم والمدن العربية منارات للتميز والتفوق في ميادين الفكر والعلم والثقافة والانطلاق نحو روح العصر والامتيازات المختلفة التي جاء بها التقدم العلمي والتكنولوجي، خصوصاً بعد انحسار الظاهرة الاستعمارية وبروز حركات التحرر الوطني التي قادها الملك ابن سعود في الحجاز ثم انتشرت واتسعت أركانها في أرض الجزيرة العربية، لذلك فالأمر يستحق منا أن نرفع الرأس عالياً وأن نزاحم بشدة بين الدول الأخرى مؤمنين بالقناعات التي نملكها والرؤى التي اتبعناها، ولقد عرفت كثير من الأقطار العربية حال الرواج التي تعيشها شعوبها بمنطق الثروة التي هبطت عليهم بعد اكتشاف الزيت بكميات اقتصادية كبرى تمهيداً لتصدر الخام منه.

ثالثاً، لقد صحا الشرق من سبات طويل ليكتشف أن خصومه في الشمال والغرب يحاولون مطاردة العناصر الغربية المعترف بها، لا رفضاً لها لكن لأنها كما هي الحال في كل زمان ومكان، حيث المرء عدو ما يجهله، فلقد تخصص البريطانيون والفرنسيون في السطو على أرض الغير ونجحوا إلى حد كبير في التأثير في الرأي العام، لأن الغرب في تلك الفترة كان هو صانع الحياة وهو سيد التطور فانقضت بريطانيا على دول حوض النيل وانفردت فرنسا بدول المغرب العربي، وظلت منطقة الخليج والجزيرة العربية مصدر لهفة للتواصل مع الدولة السعودية التي تتمسك بشدة بالحقوق الفلسطينية وتربط الحل النهائي بغاياتها التي سعت إلى توظيفها منذ البداية أيام وعد بلفور، وفي النهاية عند من يقبلون بالضغوط العنصرية ويلوحون بالشعارات الإرهابية.

رابعاً، إن الذين زرعوا الفرقة بين صفوف العرب وتمكنوا من تشويه صورتهم أمام العالم هم أنفسهم المستفيدون من حال الإقصاء التي شعر بها أشقاؤنا عبر التاريخ، فلم تعد مصر ضيعة يستنزف خيرها الدخلاء ويمتص عرق شعبها الطامعون، إذ إن الأمر المؤكد أننا كعرب في أشد الحاجة إلى تأكيد المعنى الصحيح للتضامن العربي والدفاع عن الهوية القومية، ولقد لاحظنا في مؤتمر شرم الشيخ الأخير أن الدول العربية اتحدت في رؤيتها وازدادت تمسكاً بالحقوق الفلسطينية وتشبثاً بوحدة الأرض وحرصاً على حقوق الأجيال القادمة، على رغم كل الضغوط والتحديات والألاعيب التي توحي لنا أن الغرب لا يتوقف عند حد وأن أطماعه بلا نهاية.

خلاصة القول إننا مطالبون بالتغيير الشعبوي الصحيح الذي يقوم على قراءة عادلة لكل المعطيات العربية المتاحة، مؤمنين بأن كل عبث بالخريطة السياسية لشعوب المنطقة هو تجاوز مرفوض وفكر مغلوط في كل الأحوال، لأن الأمم لا تعيش على ماضيها فقط ولا تهرب من حاضرها أبداً ولا تنسى بالضرورة مستقبلها مهما كانت الضغوط والأطماع والتحديات، ولا شك أن عرب اليوم يختلفون عن عرب الأمس، وقد أصبحت لديهم قناعة راسخة بأن الهجوم بالسلام وعناصره العادلة هو أفضل المفاتيح لارتياد المستقبل والمضي فيه.

إننا ندعو الجميع عرباً وقوميات مجاورة من ترك وكرد وفرس إلى أن يعلموا جميعاً أن المستقبل تصنعه الأفكار الواضحة الموحدة والعزيمة الصلبة والرغبة الحقيقية في التغيير إلى الأفضل والمضي قدماً مهما كانت القيود والظروف والملابسات بل والتحديات أيضاً، ولا شك أن الأخذ بالأساليب العلمية والاندفاع نحو تكنولوجيا العصر هو الضمان الرئيس لتحول إيجابي للعرب في أقطارهم المختلفة ولعله مما يرفع المعنويات التأكيد اليوم أن الفارق بين الشباب العربي والشباب الأجنبي في الدول المتقدمة هو فارق ضئيل بحكم شيوع أسباب المعرفة وأدوات العلم وعناصر الاستنارة في العالم الحديث، فالشباب العربي في كل الأقطار أصبح يملك مفاتيح التكنولوجيا الحديثة والمعارف العصرية والعلوم المتقدمة، وما أكثر النماذج التي رأيتها شخصياً في دول الخليج وأقطار الوطن العربي شرقاً وغرباً، وكلها تؤكد أننا نمضي على الطريق الصحيح على رغم كل العثرات والمربكات والاستهداف السلبي لحضارتنا وأسباب وجودنا.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • مزاج الأمم وشخصية الشعوب
  • سوريا ودول الجوار
  • المأزق السياسي في غرب آسيا  









  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي