
إبراهيم نصر الله
هذا الشهر، حلت الذكرى الثالثة لرحيل الروائي الفلسطيني فاروق وادي (1949- 2022)، الذي قدم عدداً من الأعمال الروائية والقصصية التي شكلت إضافات عميقة للرواية الفلسطينية، كان آخرها روايته العذبة «سوداد، هاوية الغزالة»، كما قدم في مطلع ثمانينيات القرن الماضي كتابه النقدي الجميل «ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية» الذي شغل كثيراً من النقاد وأراح كثيراً منهم حينما توقفوا عند كتابه هذا، وظلوا يطوفون حوله، مستعيدين له أو متكئين عليه أو مرددين ما فيه.
ومن بين كتبه، تبرز دائماً سيرته «منازل القلب ـ كتاب رام الله»، التي تشكل باباً واسعاً للتعرف إلى عالم فاروق الكتابي والإنساني، وتكشف أسرارَ كثير من رواياته وعلاقتها بتجربته الحياتية.
لعل أجمل ما في السيرة المكثّفة «منازل القلب»، أنها تتيح لنا بشفافية استعادة فاروق في ذكرى رحيله، عبر بوح صادق يلامس حدود الكشْف بأكثر من وسيلة من الوسائل التي أتاحتها له خبرته كإنسان وكاتب.
يتأمل صاحب المنازل تاريخه الإنساني، منذ الصفحة الأولى، بحرص من يريد أن يبتعد قليلاً بما يتيح له أن يرى أكثر. هكذا، يضع مسافة من خلال اللغة بين مَن يكتب، ومن تُروى حكايته، رغم كونهما واحداً لا مسافة بيْنه! وإذا كان فاروق وادي يختار هذا الأسلوب طريقاً، فإنه على مستوى البناء الفنّي الذي اختاره، يمنحنا قرّاءً الفرصة لتتبّع خيوط الحكاية، انطلاقاً من النهاية بكل مراراتها، في رحلة نحو البدايات، وما قبلها، ليعيدنا ثانية نحو النقطة التي بدأْنا منها، أو انتهينا إليها.
«ها أنتَ أخيراً تتهيأ للخروج من رهافة «النص»، بحلْمه الشفيف، وأكاذيبه البيضاء، لتدخل المدينة، فتطوي شعابها التي ظلت مستحيلة… ها أنت، ودون شروط منك، تستكين لكل شروط الدّخول».
إن عودة فاروق الناقصة (بعد أوسلو) إلى رام الله، قبل أن تتحرّر فعلاً، أو يتحرر الوطن كله، والتي كانت شرارة كتابة هذه المنازل، لا تستطيع التغلّب على نقصانها بأقلّ من أن تكون قادرة على رؤية الماضي وعهود البراءة بصدق: براءة طفولة صاحب السيرة، وبراءة تاريخ مَن حوله، وبراءة الأماكن التي عاش فيها، الأماكن التي حين غادرها أبتْ إلّا أن تواصل عيشها فيه حيث «تحالفت الأحلام في صياغتها مع الأشواق والذاكرة المغسولة بالمطر».
في روايته «رائحة الصيف» التي تناولت الأحداث نفسها التي تتحدّث عنها السيرة، كان ثمة مسافة فاصلة بين الرّاوي ومنازل قلبه، مما أتاح له أن يرى بعينَي خياله. يقول فاروق حول تجربته تلك في حوار معه: «إذا كانت الكتابة هي عملية ممارسة الحرية، فإنني بالفعل لا أمارس حرّيتي إلّا من خلالها، وفي فضاء الحرية المفتوح أكتب أحداثاً عايشتها وأخرى أعيد صياغتها، كما لو كنت أتمنى أن تحدث، بل إن من حقي أن أختلق أحداثا نَسيتْ في حياتي أن تحدث! إنني أحتمي بالخيال من هول الواقع».
وهكذا، وبعد أن مارس حقه ككاتب في رائحة الصيف، تأتي الأحداث لتمارس حقّها في «منازل القلب»، وكأن فاروق وادي يترك روايته وسيرته تتعاركان لتصلا إلى صيغة حرّة لم يستطع هو نفسه الوصول إليها، وهو بين طرفي معادلة فلسطينية نادرة، لا يستطيع المرء استعادة وطنه من خلالها تماماً، لا بالخيال ولا بالوقائع.
تخرج «منازل القلب» من فسحة الخيال لتدخل في «هوْل الواقع»، ولذلك تبدأ بانتزاع ريش الأجنحة التي وجدت لها مكاناً في فضاء الكتابة ولم تجد لها ما يشابهه في سماء الوطن الحلم، الذي تحوّل فجأة إلى واقع لا تختلف السيرة على حقّه في أن يكون أجمل من الخيال، لكنها لا تستطيع مواصلة الخيال كي لا تحرمه من وجوده الفعلي ومراراته.
«تتذكر الشرطي الفلسطيني الذي التقاك على الجسر وسلّمك دون أن يدري مفتاح الدّخول إلى قلب الوطن، عندما سألته إن كانوا يواجهون مشاكل في العمل (معهم)، فأجاب: «نحن لا نعمل معهم.. نحن نعمل عندهم»!
وفي موقع آخر يأتي حوار آخر موصول بالحوار الأول ومكمل له: «تستدرجُ السائقَ لمشاركتك انكساراتك وغبطتك، تسأله: منذ متى أصبحنا نصل إلى «قلنديا» دون المرور من القدس؟ فيجيبك بسخرية ودون تحديد للتواريخ: منذ أن شقّوا هذا الطريق. ثم يضيف بلكنة موشّاة بحزن وانكسار: نحن نسير على الطريق التي رسموها لنا على الخرائط من زمن طويل»!
عبر فاتحة كهذه، تبدأ بها الصفحات الأولى، لا تملك الكتابة سوى أن تكون صادقة، بعد أن تبيّن لنا على المستوى الفعلي للتاريخ، أن أقبح الكلام كان -دائماً- أكذبه.
يتقدّم فاروق وادي في «منازل القلب» وشوارعها، خطوة خطوة، وهو معنيٌّ بأدق التفاصيل: ما كان، وكيف أصبح، دون أن يكون، هذه المرة، مكان لما يمكن أن يكون. وإذا ما تأمّلنا المساحة التي يتحرّك فيها «العائد»، فإنها محصورة مُحاصرة، حيث تتحوّل «رام اللـه والبيرة» الملتصقتان حدّ الذوبان، إلى ما يشبه الحارة الصغيرة التي أطلق عليها في «رائحة الصيف» اسم «حارة الفردوس» وكان اسمها في الواقع «رأس الطاحونة»!
إن تأمل المسافة بين الاسمين قد فتح الباب لحلّ لغز تلك الظاهرة التي تجتاح السيرة بمجملها لتكون السِّمة الأبرز للإحساس العميق بما يدور في داخل الرّاوي وهو يستعيد حكايته، ويتتبع تاريخ المكان وزواياه وتاريخ البشر وما آلوا إليه، ونعني بها ظاهرة الحديث عن ضيْق المكان أو اضمحلاله أو تلاشي قامته وامتداده.
عند التحدّث عن هذا الجانب كظاهرة، فإن ذلك يعني أنها واضحة إلى درجة لا يستطيع النقاد والدارسون المرور عنها كما لو أنها ليست موجودة، لأنها تتكرّر كلازمة من أول الكتاب إلى آخره: «الآن، تبدو لكَ الشرفة نفسها أقلّ ضآلة مما كانت، وأقل ارتفاعاً.. غير أن الشجر يبدو أقلّ خضرة وأضأل حجماً مما كان.. بدا لك المكان أكثر ضيقاً.. جدران غُرَفِه تتقارب أكثر، وممرّه الداخلي الذي كان يتّسع للعب كرة القدم، لم يعد يتّسع لقدمين تورمتا في طرقات المنافي…».
وبعـــد:
إذا كان فاروق قد استحضر الطفولة المفقودة في «الرواية- رائحة الصيف» كمحاولة للتخلّص من وطأة ثقل المنفى على الروح، فإنه في «السيرة- منازل القلب» يستحضر ماضي الوطن وتاريخه للتخلص من وطأة الصورة الراهنة للوطن، ويُسجَّل له أنه استطاع كتابة سيرة تقارع وهي تستحضرها، وتسخر منها، وتتجوّل بتواضع في الماضي والحاضر، بعيدًا عن ذلك النوع من السِّير الذاتية التي تستحضر انتصارات صاحبها، كما لو أنه -لفرط كرمه- يريد أن يُعوِّضنا عن هزائمنا التي لم يستطع أو نستطع تحقيقها.