زيارة محمد بن سلمان لأمريكا: شراكات اقتصادية ودفاعية تغيّر قواعد اللعبة
2025-11-24 | منذ 1 ساعة
صادق الطائي
صادق الطائي

 

شكّلت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن لحظةً سياسية لافتة، أعادت رسم ملامح العلاقة بين الرياض وواشنطن، وأعادت أيضاً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى نقطة تقاطع مع ملفات معقدة تمتد من الاستثمار الضخم إلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي، مروراً بالتهديد الإيراني والاتفاق النووي المدني بين الرياض وواشنطن. هذه الزيارة، بكل ما حملته من مظاهر احتفاء استثنائي، بدت كما لو أنها إعلان مشترك لفتح فصل جديد من الشراكة، رغم أثقال الماضي ورغم التعقيدات التي تملأ المشهد الإقليمي.
منذ لحظة وصول بن سلمان إلى البيت الأبيض وتحوله إلى محور عرض عسكري وجوي وبروتوكولي، بدا واضحاً أن ترامب أراد توجيه رسالة مفادها أن العلاقة مع السعودية ليست مجرد تعاون عابر، بل تحالف استراتيجي يتجاوز حساسيات السنوات السابقة، وما أثارته قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي من توتر. ترامب قالها صراحة وهو يجلس إلى جانب ولي العهد: «إنه شرفٌ أن أستضيف صديقي الجيد»، مشيداً بالسعودية بوصفها «حليفاً قوياً وشريكاً مهماً».
كما ارتكزت الزيارة على إعادة تثبيت العلاقة بين ترامب والأمير محمد بن سلمان بعد سنوات من الجدل. ومع أنّ أسئلة الصحافيين حول مقتل خاشقجي عادت إلى الواجهة، فإن ترامب لم يتردد في الدفاع عن ضيفه قائلاً: «أشياء تحدث، لكنه لم يكن يعرف شيئاً عن ذلك، ويمكن أن نترك الأمر عند هذا الحد». وفي رد مشابه كرره في أكثر من ظهور، قال: «سواء أحببتم الرجل أو لم تحبوه، إنها أشياء تحدث». وبدا ترامب كما لو أنه يصرّ على غلق هذا الملف سياسياً، رافضاً «إحراج الضيف» على حد تعبيره، بينما أكد ولي العهد السعودي من جهته أن القضية كانت «مؤلمة وهائلة الخطأ» وأن السعودية «اتخذت كل الخطوات الصحيحة» لمنع تكرارها، مشيراً إلى أن بلاده «طوّرت نظامها لضمان عدم تكرار مثل هذا الحادث».

على المستوى السياسي، بدا أن الطرفين واشنطن والسعودية تتجهان
نحو بناء معادلة جديدة للاستقرار تقوم على التحالفات الاقتصادية والدفاعية العميقة

وعلى الرغم من أن هذه العبارات أثارت انتقادات واسعة من جماعات حقوق الإنسان، ومن أسرة خاشقجي ذاتها، إلا أنّ اللحظة السياسية التي انعقدت فيها الزيارة كشفت أن واشنطن والرياض قررتا المضيّ نحو المصالح الكبرى. فقد جاء الإعلان الأبرز على لسان الرئيس الأمريكي أثناء حفل العشاء الرسمي، حين أعلن رسمياً تصنيف السعودية «حليفاً رئيسياً من خارج الناتو»، مؤكداً أن القرار «يرفع التعاون العسكري إلى مستويات أعلى»، وأنه يحمل «أهمية كبيرة للمملكة». ثم أعلن بعد ذلك توقيع «اتفاق دفاع استراتيجي» يعزز الردع في الشرق الأوسط ويمنح الشركات الأمريكية قدرة أكبر على العمل داخل المملكة، إلى جانب «تمويلات جديدة من السعودية لتخفيف كلفة الوجود الأمريكي» في المنطقة. بهذه الخطوات، بدا ترامب كما لو أنه يعيد تشكيل معادلة الأمن الإقليمي، وفق مقاربة تقوم على تحالفات ثنائية قوية، وعلى دعم مباشر للحلفاء، الذين يراهن عليهم في صياغة «سلام طويل الأمد» في الشرق الأوسط، كما وصفه خلال لقائه مع الأمير.
في هذا السياق، أرى أن واشنطن تبدو اليوم أكثر اعتماداً على الرياض كركيزة ثابتة في منطقة تعيش فراغات أمنية وسياسية متصاعدة. واللافت أنّ هذا الاعتماد المتجدد لا ينبع فقط من ضرورة مواجهة إيران، أو إدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بل من إدراك أمريكي بأن السعودية باتت لاعباً اقتصادياً دولياً قادراً على إعادة توجيه استثماراته نحو الشرق أو الغرب، وفق حسابات دقيقة. لذلك، فإن الترحيب المبالغ به من ترامب لم يكن مجرد مجاملة سياسية، بل كان اعترافا عمليا بأن واشنطن تحتاج المملكة بقدر حاجة المملكة لها. في المقابل، لم يأتِ بن سلمان خالي اليدين، بل أعلن عن رفع حجم الاستثمارات المخطط لها في الولايات المتحدة من 600 مليار دولار إلى تريليون دولار، مؤكداً لترامب أنه «بالتأكيد، يمكن بلوغ هذا الرقم»، واصفاً الولايات المتحدة بأنها «أسخن دولة على الكوكب للاستثمار الأجنبي». هذه الاستثمارات الضخمة ليست مجرد أرقام، فهي تعكس تحوّلاً سعودياً في نظرته للاقتصاد العالمي ضمن إطار «رؤية 2030» التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد السعودي، وتطوير قطاعات التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي، الطاقة، السياحة، والبنية التحتية. ولهذا جاءت الزيارة متزامنة مع «قمة استثمارية» واسعة في مركز كينيدي، جمعت كبريات الشركات الأمريكية والسعودية من أمثال Salesforce وQualcomm وPfizer وAramco، في إشارة واضحة إلى أن الرهان الاقتصادي يشكل حجر الزاوية في المرحلة المقبلة. لكن التطور الذي حمل أثراً جيوسياسياً كبيراً هو موافقة ترامب على بيع طائرات F-35 للمملكة، وهو ما اعتبره كثيرون تحوّلاً تاريخياً في سياسة تصدير السلاح الأمريكي إلى المنطقة، إذ كانت إسرائيل الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك هذا الطراز من المقاتلات الحديثة. ترامب قال رداً على سؤال صحافي: «أعتقد أنها ستكون مشابهة جداً.. نعم»، مؤكداً رغبته في أن تحصل كل من المملكة العربية السعودية وإسرائيل على «أفضل الطائرات». هذا التطور أثار حذراً في تل أبيب، كما أشار العديد من الخبراء، باعتبار أن القانون الأمريكي يشترط الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.
ومن هنا، انتقلت المحادثات مباشرة إلى ملف التطبيع، ففي عدة مناسبات أثناء وجوده مع محمد بن سلمان، أعرب ترامب عن أمله في أن تنضم السعودية «قريباً» إلى اتفاقيات أبراهام، معتبراً أن الأمر «ضروري لتحقيق سلام حقيقي» بعد حرب غزة، لكن ولي العهد كان واضحاً: «نريد أن نكون جزءاً من اتفاقيات أبراهام، ولكن نريد أيضاً ضمان تأمين مسار واضح لحل الدولتين». هذا الموقف أعاد الملف الفلسطيني إلى قلب المعادلات بعد محاولات طمسه. كما شدّد بن سلمان على أن الرياض تتابع باهتمام «الخطوات التي قد تؤدي إلى إنهاء الحرب وإعادة إعمار غزة». وأشار ترامب نفسه إلى دور المملكة في «المساعدة على إنهاء الحرب» قائلاً، إن الخبراء وصفوا ما تحقق بأنه «معجزة «.
أما في الملف النووي، فرغم أن النص الأصلي تناول الاتفاق بإيجاز، فإن دلالاته أكبر بكثير. فالتعاون النووي المدني بين الرياض وواشنطن لا يعني مجرد بناء مفاعلات، بل هو جزء من سباق إقليمي على النفوذ التكنولوجي بين السعودية وإيران والإمارات. كما أنه يحمل رسالة مزدوجة: الأولى لطهران بأن الرياض تمتلك خيارات تكنولوجية متقدمة، والثانية لواشنطن بأن السعودية لن ترضى بدور ثانوي في توازنات الطاقة النووية. هذا الاتفاق، حتى لو كان إطارياً، يمثل بداية مرحلة قد تغيّر قواعد اللعبة إذا ما تم تجاوز عقبة تخصيب اليورانيوم.
ولم تغب السياسة الداخلية الأمريكية عن المشهد. فقد تعرّض ترامب لأسئلة حول تضارب المصالح بسبب مشاريع عائلته التجارية في السعودية، لكنه قال: «ليس لي أي علاقة بالأعمال العائلية.. ما يفعله أفراد عائلتي هو شأنهم الخاص». إلا أنّ تقارير عديدة أشارت إلى أن العلاقة الاقتصادية بين عائلة ترامب ومطوّرين سعوديين ليست هامشية.
وبالمثل، لا يمكن تجاهل أن السعودية هي الأخرى توظّف الزيارة في إطار صراع القوى الكبرى، فالمملكة باتت شريكاً مطلوباً من واشنطن وبكين ونيودلهي في وقت واحد. والزيارة تمنح الرياض هامشاً أكبر للمناورة بين الشرق والغرب، وهو ما يجعلها لاعباً محورياً في إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية.
في المحصلة، جاءت زيارة ولي العهد لتكرّس علاقة شخصية واستراتيجية بينه وبين ترامب، ولإعادة صياغة صيغة تحالف تقوم على تبادل المصالح الكبرى. أما على المستوى السياسي، فقد بدا أن الطرفين يتجهان نحو بناء معادلة جديدة للاستقرار تقوم على التحالفات الاقتصادية والدفاعية العميقة.
ويبقى السؤال الأخير ـ وهو الأثقل سياسياً: هل تقود هذه الزيارة إلى إعادة رسم ميزان القوى في الشرق الأوسط فعلاً، أم أن كل ما جرى هو هندسة ظرفية ستتغير بتغير الإدارات والضغوط؟ الإجابة ستتضح في السنوات المقبلة، حين نرى إن كانت هذه الزيارة لحظة عابرة.. أم بداية لتاريخ جديد؟

 

*كاتب عراقي - القدس العربي
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • كيف ستختلف سياسات ترامب في الولاية الثانية؟
  • الرد الإسرائيلي وبنك الأهداف الإيرانية
  • جاسوس إسرائيلي في مكتب الجنرال قاآني!









  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي