
صبحي حديدي
في قلعة السراغنة، المدينة المغربية العريقة والفاتنة، انعقد المؤتمر الدولي الأول حول «التكنولوجيا الرقمية: صَوْن الهوية والثقافة الوطنية»، بمشاركة نخبة من الخبراء والأكاديميين والنقاد وذوي الاختصاص، وفدوا من بريطانيا وتركيا ومصر وتونس وسوريا والعراق وموريتانيا وتركيا وتشاد، فضلاً عن تمثيل مغربي واسع. واشتركت في الدعوة إلى المؤتمر وتنظيمه كليةُ العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ــ جامعة القاضي عياض، في قلعة السراغنة، وعميدها د. محمد الغالي؛ بتعاون وثيق مع مؤسسة «كش برس» الإعلامية، التي يديرها الأكاديمي والناقد د. مصطفى غلمان.
وعبر خمس جلسات، على امتداد يومين حافلين، تناولت النقاشات قضايا التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، والعالم الرقمي والتواصل الثقافي، والرقمية والهوية انطلاقاً من مقاصد اللغة إلى أخلاق التقنية، والتحوّل الرقمي من زاوية تحديات الهوية والقيم في المجتمعات المعاصرة، وسوى ذلك من تفاصيل مترابطة. وقد تشرفتْ هذه السطور بتقديم ورقة عنوانها «الطغيان الرقمي: خمسة أنماط في منظومة متنافرة»، ساجلتْ بأنّ للثورة محاسن عديدة وفوائد كثيرة، لا تحجب مع ذلك سلسلة مساوئ ومضارّ.
وقد عرضت الورقة خمسة أنماط من الركائز السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، متعددة الميادين ومختلطة النُظُم ومفتوحة الوظائف، تقف خلف الطغيان الرقمي الكوني الراهن، القائم مع ذلك ضمن منظومة متنافرة مروَّضة. والنمط الأول هو الـ»تكنو ـ إقطاعية» التي تطورت إليها مجموعة الـGAFAM الشهيرة، اختصار الأحرف الأولى لشركات «غوغل» و»أبل» و»فيسبوك» و»أمازون» و»مكروسوفت»، والتي يبلغ صيدها في البورصة العالمية ما يقارب 3250 مليار دولار أمريكي. ومن اللافت أنّ مصطلح التكنوـ إقطاعية كان قد رأى النور للمرّة الأولى في الولايات المتحدة سنة 1990، على يد لويد بلانكنشب، الأب الروحي/ المؤسس للتهكير والمهكّرين؛ حيث طُرح تساؤل مركزي: أهذه، بمنطوق الصفة الإقطاعية، ردّة إلى وراء في ما تزعم الرأسمالية، خاصة أجنحتها الليبرالية القديمة والمحدثة، أنها أنجزته على صعيد التقدّم في العلاقة بين العمل والعامل؟ وما الذي تفعله الرأسمالية للاقتصاد الرقمي، أو بالأحرى ماذا يفعلان ببعضهما؟
النمط الثاني يخصّ أداة الإنتاج والديماغوجيا الرقمية، ويلفت هنا أنّ الاستثمار الوظيفي لأدوات الإنتاج هو إحدى السمات المكوّنة في لاهوت الاقتصاد الرقمي؛ وهو على نحو أو آخر، أحد تفاعلات اقتصاد رقمي يرتدّ من حاضر رأسمالي إلى ماض إقطاعي. إنه موقف لا ينكر التأزّم، لكنه ينحّي جانباً كل ما يثير «الاضطراب»: مظاهرات، إضرابات، ديمقراطيات مريضة، صعود للتيارات الشعبوية والعنصرية والفاشية. تدوينات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصة «تويتر» تظل التعبير الأوضح عن طراز من الديماغوجيا الرقمية بمثابة انعكاس يومي مباشر ومفتوح وصريح، وأحياناً فظّ وجلف وبذيء، لمزاج ترامب الشخصي حول أي أمر جلل أو تافه.
نمط ثالث يخصّ علاقة العملاق الرقمي بقوت البشر من حيث إنّ نطاق العولمة الكونية في قطاع الزراعة وإنتاج الأغذية والتخضير وما يرتبط بها من توفير مؤشرات مناخية وبيئية وتحليلية، إنما بات أسير احتكار خمسة عمالقة لا تخطر أسماؤهم على البال بسهولة حين يتصل الأمر بالحقول الزراعية السالفة: أعضاء الـGAFAM أنفسهم، المركّب المالي/ الرقمي الذي يسيطر، تحت ستار «الزراعة الذكية»، على سياسات الحكومات كما يتمّ فرضها مباشرة أو عبر وساطات البنك المركزي الأوربي ECB، والاحتياطي الفدرالي الأمريكي، وعمالقة شركاء آخرين أمثال فانغارد وبلاكروك (اللذين يمتلكان أصولاً مختلفة تفوق ما يمتلكه الـECB والفدرالي مجتمعين).
النمط الرابع هو التبعية الإلكترونية إزاء الاستقلال الورقي/ السلكي، إذْ على نقيض ما قد يبدو للوهلة الأولى، ليست المنظومات الرقمية الراهنة نتاج الأحقاب الحديثة، أو حتى ما توصف بـ»ما بعد الحديثة»، وحدها؛ بل ثمة مقادير غير ضئيلة من الاعتماد، تبلغ أحياناً درجة التبعية في مستويات إجرائية معينة، لأنماط سابقة متفاوتة القِدم والوظيفة والجدوى. والمثال الأول الذي يقفز إلى الذهن سريعاً هو الثقافة الورقية التي تواصل الحياة والاستخدام حتى في أعتى مراكز إنتاج النظم الرقمية. والمثال الثاني هو الاعتماد الرقمي على السلكي، بصرف النظر عن الفاعلية القصوى للاتصال اللاسلكي، لأنّ العديد من التقنيات الرقمية العالية، تتشابك مع أنظمة سابقة يعود بعضها إلى ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر في ميادين الاتصالات الكهرمغناطيسية تحديداً.
النمط الخامس هو، بالطبع، الخوارزميات بوصفها أدوات الفَلْتَرة والتسويق والاستدراج، والشبح الذي يحوم على علاقة الإنسان بالأنظمة الرقمية كافة في الواقع؛ عبر استيعاب أكداس لا عدّ لها ولا حصرمن المعطيات الخاصة بكل مستخدِم، من خلال سلسلة معادلات. وهذه تفرز نتائج تتلاقى مع اهتمامات المنخرط في نشاط رقمي، وتقتحم خصوصياته، وتكيّف احتياجاته، وتمارس في الحصيلة مجموعة معقدة من المهامّ التسويقية والاستدراجية والدعائية، وبعضها غير بعيد عن التضليل والتزييف والتحريف.
وعلى نقيض ما تبدو عليه هذه الأنماط من انسجام لجهة التوظيف الرقمي، والعلاقة المتفاوتة مع الآدمي خلال الأداء والاستغلال، وخدمة الاحتكارات التسلطية الكبرى؛ فإنها متنافرة غالباً أو حتى متضادة أحياناً، وتناحرية من حيث التكالب على السوق والمستهلك والمنتِج والمنتَج. تماماً على غرار قوانين كبرى حكمت وتحكم قواعد التكامل والتنابذ بين أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المنظومات الرأسمالية، كلاسيكية كانت أم حديثة أم معاصرة.
*كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا